التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً
٦٦
أَوَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً
٦٧
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً
٦٨
ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً
٦٩
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً
٧٠
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
٧١
ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
٧٢
-مريم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } الإنسان هنا أبيّ بن خلف، وجد عظاماً بالية ففتتها بيده، وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت؛ قاله الكلبي؛ ذكره الواحدي والثعلبي والقشيري. وقال المهدوي: نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه، وهو قول ابن عباس. واللام في «لسوف أخرج حيا» للتأكيد. كأنه قيل له: إذا ما مت لسوف تبعث حياً فقال: «أئذا ما مت لسوف أخرج حياً»! قال: ذلك منكراً فجاءت اللام في الجواب كما كانت في القول الأول، ولو كان مبتدئاً لم تدخل اللام؛ لأنها للتأكيد والإيجاب وهو منكر للبعث. وقرأ ابن ذكوان «إذا ما مِت» على الخبر. والباقون بالاستفهام على أصولهم في الهمز. وقرأ الحسن وأبو حيوة «لَسَوْفَ أَخْرُجُ حَيًّا»؛ قاله استهزاء لأنهم لا يصدقون بالبعث. والإنسان هاهنا الكافر.

قوله تعالى: { أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ } أي أولا يذكر هذا القائل { أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } أي من قبل سؤاله وقوله هذا القول { وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } فالإعادة مثل الابتداء فلم يناقض. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً، وأهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر «أَوَلاَ يَذَّكَّرُ». وقرأ شيبة ونافع وعاصم { أَوَلاَ يَذْكُرُ } بالتخفيف. والاختيار التشديد وأصله يتذكر؛ لقوله تعالى: إنما يتذكر أولو الألباب» وأخواتها. وفي حرف أبيّ «أَوَلاَ يَتَذَكَّرُ» وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخط المصحف. ومعنى «يَتَذَكَّرُ» يتفكر، ومعنى «يَذْكُرُ» يتنبه ويعلم؛ قاله النحاس.

قوله تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ } أقسم بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى المعاد كما يحشر المؤمنين. { وَٱلشَّيَاطِينَ } أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم. قيل: يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة؛ كما قال: { { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]. الزمخشري: والواو في «والشَّياطِين» يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع، وهي بمعنى مع أوقع. والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم؛ يقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت: إذا حشر جميع الناس حشراً واحداً وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين، فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة. فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت: لم يفرق بينهم في المحشر، وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم، وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة، وسروراً إلى سرور، ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم؛ فتزداد مساءتهم وحسرتهم، وما يغظيهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم. فإن قلت: ما معنى إحضارهم جثياً؟ قلت: أما إذا فسر الإنسان بالخصوص فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطىء جهنم عَتْلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف، جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم. وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو؛ قال الله تعالى: { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } كلٌّ على الحالة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات، من تجاثي أهلها على الركب. لما في ذلك من الاستيفاز والقلق، وإطلاق الجُثَا خلاف الطمأنينة؛ أو لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجـثون على ركبهم جثواً. وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطيء جهنم. على أن «جثيا» حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين؛ لأنه من توابع التواقف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب. ويقال: إن معنى { لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } أي جثياً على ركبهم؛ عن مجاهد وقتادة؛ أي أنهم لشدّة ما هم فيه لا يقدرون على القيام. «وحول جهنم» يجوز أن يكون داخلها؛ كما تقول: جلس القوم حول البيت أي داخله مطيفين به؛ فقوله: «حول جهنم» على هذا يجوز أن يكون بعد الدخول. ويجوز أن يكون قبل الدخول. و«جثيا» جمع جاثٍ. يقال: جثا على ركبتيه يَجْثو ويَجْثِي جُثوًّا وجُثيا على فعول فيهما. وأجثاه غيره. وقوم جُثيٌّ أيضاً؛ مثل جلس جلوساً وقوم جلوس، وجِثى أيضاً بكسر الجيم لما بعدها من الكسر. وقال ابن عباس: «جثيا» جماعات. وقال مقاتل: جمعاً جمعاً؛ وهو على هذا التأويل جمع جُثْوة وجَثوَة وجِثوة ثلاث لغات، وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع؛ فأهل الخمر على حدة، وأهل الزنى على حدة، وهكذا؛ قال طرفة:

تَرَى جُثْوتين من تُرابٍ عليهماصفائحُ صُمٌّ من صفيحٍ مُنَضَّدِ

وقال الحسن والضحاك: جاثية على الركب. وهو على هذا التأويل جمع جاثٍ على ما تقدّم. وذلك لضيق المكان؛ أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوساً تاماً. وقيل: جثياً على ركبهم للتخاصم؛ كقوله تعالى: { { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31]. وقال الكميت:

هم تَركُوا سَرَاتَهُمُ جثيًّاوهم دون السّراةِ مقرَّنينَا

قوله تعالى: { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ } أي لنستخرجن من كل أمة وأهل دين { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً } النحاس: وهذه آية مشكلة في الإعراب؛ لأن القراء كلهم يقرؤون «أيهم» بالرفع إلا هارون القارىء الأعور فإن سيبويه حكى عنه: «ثم لننزِعن مِن كل شِيعةٍ أَيَّهُمْ» بالنصب أوقع على أيهم لننزعن. قال أبو إسحاق في رفع «أيهم» ثلاثة أقوال؛ قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه: إنه مرفوع على الحكاية؛ والمعنى: ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشدّ على الرحمن عتيا؛ وأنشد الخليل، فقال:

ولقد أبيت من الفتاة بمنزلٍفأبيتُ لا حرِج ولا محروم

أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حَرِج ولا محروم. وقال أبو جعفر النحاس: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه؛ قال: لأنه معنى قول أهل التفسير. وزعم أن معنى «ثم لننزعن من كل شيعة» ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدّهم عتيا ثم الذي يليه؛ وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس: «لننزعن» بمنزلة الأفعال التي تلغى ورفع «أيهم» على الابتداء. المهدوي: والفعل الذي هو «لننزعن» عند يونس معلق؛ قال أبو علي: معنى ذلك أنه يعمل في موضع «أيهم أشدّ» لا أنه ملغى. ولا يعلق عند الخليل وسيبويه مثل «لننزعن»، إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه. وقال سيبويه: «أَيُّهُمْ» مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف؛ لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحاً، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في «أيهم» جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أحداً من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا، وسمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما؛ قال: وقد علمنا أن سيبويه أعرب أياً وهي مفردة لأنها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة؟! ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال. أبو عليّ: إنما وجب البناء على مذهب سيبويه؛ لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه، كما حذف في: «من قبل ومن بعد» ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه؛ لأن الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه. قال أبو جعفر: وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق؛ قال الكسائي: «لننزعن» واقعة على المعنى، كما تقول: لبست من الثياب، وأكلت من الطعام، ولم يقع «لننزعن» على «أيهم» فينصبها. زاد المهدوي: وإنما الفعل عنده واقع على موضع «من كل شيعة» وقوله: «أيهم أشد» جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء؛ ولا يرى سيبويه زيادة «من» في الواجب. وقال الفراء: المعنى ثم لننزعن بالنداء، ومعنى «لننزعن» لننادين. المهدوي: ونادى فعل يعلق إذا كان بعده جملة، كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ. قال أبو جعفر: وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في «أيهم» معنى الشرط والمجازاة، فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها؛ والمعنى: ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا، كما تقول: ضربت القوم أيهم غضب؛ والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا. قال أبو جعفر: فهذه ستة أقوال، وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال: «أيهم» متعلق «بشيعة» فهو مرفوع بالابتداء؛ والمعنى: ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم؛ أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشدّ على الرحمن عتياً؛ وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون. و«عتيا» نصب على البيان. قوله تعالى:{ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } أي أحق بدخول النار. يقال: صَلَى يَصْلَى صُليا، نحو مضى الشيء يمضي مُضِيا إذا ذهب، وهوى يهوي هُوِيا. وقال الجوهري: ويقال صليت الرجل ناراً إذا أدخلته النار وجعلته يَصلاها؛ فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصَلَّيته تصليةً. وقرىء «ويُصَلَّى سَعِيراً». ومن خفف فهو من قولهم: صَلِي فلان بالنار (بالكسر) يصلى صُلِياً احترق؛ قال الله تعالى: «هُمْ أَوْلَى بِهَا صُلِيًّا». قال العجاج:

واللَّهِ لولا النارُ أن نصلاها

ويقال أيضاً: صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدّته. قال الطُّهَوِي:

وَلاَ تَبْلَى بَسَالَتُهُمْ وإنْ هُمْصَلُوا بالحرب حِيناً بعد حينِ

واصطليت بالنار وتصلّيت بها. قال أبو زبيد:

وقد تَصلَّيتُ حَرَّ حَرْبِهمُكَما تَصلَّى المقْرَورُ من قَرَسِ

وفلانٌ لا يُصطَلَى بناره إذا كان شجاعاً لا يُطاق.

قوله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } فيه خمس مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ } هذا قسم، والواو يتضمنه. ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تَحِلَّة القسم" قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } ذكره أبو داود الطيالسي؛ فقوله: «إلا تحِلة القسم» يخرج في التفسير المسند؛ لأن القسم المذكور في هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }. وقد قيل: إن المراد بالقسم قوله تعالى: { { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [الذاريات: 1] إلى قوله: { { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } [الذاريات: 5] والأوّل أشهر؛ والمعنى متقارب.

الثانية: واختلف الناس في الورود؛ فقيل: الورود الدخول؛ روي عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الورود الدخول لا يبقى بَرٌّ ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }" أسنده أبو عمر في كتاب «التمهيد». وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم. وروي عن يونس أنه كان يقرأ «وإن منكم إلا وارِدها» الورود الدخول؛ على التفسير للورود، فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن. وفي مسند الدارمي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأوّلهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحُضْر الفرس ثم كالراكب المجِدّ في رَحْله ثم كشدّ الرجل في مشيته" . وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي: أما أنا وأنت فلا بد أن نردها، أما أنا فينجيني الله منها، وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك. وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر؛ وقد بيناه في «التذكرة». وقالت فرقة: الورود الممر على الصراط. وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي، ورواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله الحسن أيضاً؛ قال: ليس الورود الدخول، إنما تقول: وردت البصرة ولم أدخلها. قال: فالورود أن يمرّوا على الصراط. قال أبو بكر الأنباري: وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة، واحتجوا بقول الله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها. وكان هؤلاء يقرؤون «ثَمَّ» بفتح الثاء «نُنَجِّي الَّذينَ اتَّقَوْا». واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الأولى بأن معنى قوله: «أولئِك عنها مبعدون» عن العذاب فيها، والإحراق بها. قالوا: فمن دخلها وهو لا يشعر بها، ولا يحس منها وجعاً ولا ألماً، فهو مبعد عنها في الحقيقة. ويستدلون بقوله تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } بضم الثاء؛ فـ«ـثم» تدل على نجاء بعد الدخول.

قلت: وفي صحيح مسلم: "ثم يُضرَبُ الجسر على جهنم وتَحُلُّ الشفاعة فيقولون اللَّهُمَّ سَلِّم سَلِّم قيل: يا رسول الله وما الجِسرُ؟ قال: دَحْضٌ مَزِلّةٌ فيه خَطَاطيفُ وكَلاَليبُ وحَسَكٌ تكون بنجد فيها شُوَيْكَة يقال لها السَّعْدان فيمرُّ المؤمنون كطرْف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والرّكاب فناجٍ مُسلَّمْ ومخدوشٌ مُرْسَل ومَكْدُوس في نار جهنم" الحديث. وبه احتج من قال: إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنته هذه الآية لا الدخول فيها. وقالت فرقة: بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب. وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم، فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه، ويصار بهم إلى الجنة. { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ } أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى: «وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ» أي أشرف عليه لا أنه دخله. وقال زهير:

فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُوَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخيِّم

وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار أحدٌ من أهل بدر والحديبية" قالت فقلت: يا رسول الله وأين قول الله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فَمَه { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }».أخرجه مسلم من حديث أم مُبَشِّر؛ قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة. الحديث. ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء: 101]. وقال مجاهد:

ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً من وعك به، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظّه من النار" أسنده أبو عمر قال: حدّثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدّثنا أبو أسامة قال: حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله (عن أبي صالح) الأشعري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً فذكره. وفي الحديث: "الحُمَّى حَظُّ المؤمن من النار" . وقالت فرقة: الورود النظر إليها في القبر، فينجّي منها الفائز، ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى. واحتجوا بحديث ابن عمر: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ" الحديث. وروى وكيع عن شعبة عن عبد الله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال: في قول الله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال: هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ «وإن مِنهم» رداً على الآيات التي قبلها في الكفار: قوله:{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً وَإِن مِّنكُمْ } وكذلك قرأ عكرمة وجماعة؛ وعليها فلا شغْب في هذه القراءة. وقالت فرقة: المراد بـ«ـمنكم» الكفرة؛ والمعنى: قل لهم يا محمد. وهذا التأويل أيضاً سهل التناول؛ والكاف في «منكم» راجعة إلى الهاء في «لنحشرنهم والشياطين. ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا» فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء؛ فقد عرف ذلك في قوله عز وجل: { { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } [الإنسان: 21] معناه كان لهم، فرجعت الكاف إلى الهاء. وقال الأكثر: المخاطب العالم كله، ولا بد من ورود الجميع، وعليه نشأ الخلاف في الورود. وقد بينا أقوال العلماء فيه. وظاهر الورود الدخول؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «فتمسّه النار» لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة، إلا أنها تكون برداً وسلاماً على المؤمنين، وينجون منها سالمين. قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يقل ربنا: إنا نرد النار؟ فيقال: لقد وردتموها فألفيتموها رماداً.

قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال؛ فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونُجِّي منها. نجانا الله تعالى منها بفضله وكرمه، وجعلنا ممن وردها فدخلها سالماً، وخرج منها غانماً. فإن قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا: لا نطلق هذا، ولكن نقول: إن الخلق جميعاً يردونها كما دل عليه حديث جابر أوّل الباب؛ فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بَوْنٌ. وقال ابن الأنباري محتجاً لمصحف عثمان وقراءة العامة: جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ كما قال: { { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } [الإنسان: 21 ـ 22] فأبدل الكاف من الهاء. وقد تقدم هذا المعنى في «يونس».

الثالثة: الاستثناء في قوله عليه السلام: «إلا تَحِلَّة القَسَم» يحتمل أن يكون استثناء منقطعاً: لكن تحلة القسم؛ وهذا معروف في كلام العرب؛ والمعنى ألا تمسه النار أصلاً؛ وتم الكلام هنا ثم ابتدأ «إلا تحلة القسم» أي لكن تحلة القسم لا بد منها في قوله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جُنَّة من النار" والجُنَّة الوقاية والستر، ومن وُقي النار وسُتر عنها فلن تمسّه أصلاً، ولو مسّته لما كان موقى.

الرابعة: هذا الحديث يفسر الأوّل لأن فيه ذكر الحِسْبة؛ ولذلك جعله مالك بأثره مفسراً له. ويقيد هذا الحديث الثاني أيضاً ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنْث كان له حجاباً من النار ـ أو ـ دخل الجنة" فقوله عليه السلام: "لم يبلغوا الحِنْث" ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحُلُم ولم يبلغوا أن يلزمهم حِنْث ـ دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة ـ والله أعلم ـ لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يُرحَموا من أجل (من) ليس بمرحوم. وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة، ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم في المشيئة؛ وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط، إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول؛ وأن قوله عليه الصلاة والسلام: "الشقيّ من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه" الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يشقَ بدليل الأحاديث والإجماع. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: "يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم" ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار، وطلحة بن يحيـى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به. وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرّج عليه وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلاً من الأنصار مات له ابن صغير فَوَجد عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما يَسرك ألا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدتَه يَستفتح لك فقالوا: يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة" قال أبو عمر: هذا حديث ثابت صحيح؛ بمعنى ما ذكرناه مع إجماع الجمهور؛ وهو يعارض حديث يحيـى ويدفعه. قال أبو عمر: والوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه، واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته؛ فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا، وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال: نسخ قوله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قولُه: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء: 101] وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها. وفي الخبر: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي».

الخامسة: قوله تعالى: { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } الحتم إيجاب القضاء؛ أي كان ذلك حتماً. «مقضيا» أي قضاه الله تعالى عليكم. وقال ابن مسعود: أي قسماً واجباً.

قوله تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } أي نخلصهم { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } وهذا مما يدل على أن الورود الدخول؛ لأنه لم يقل: وندخل الظالمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو. وقالت المرجئة: لا يدخل. وقالت الوعيدية: يخلّد. وقد مضى بيان هذا في غير موضع. وقرأ عاصم الجحدريّ ومعاوية بن قرة «ثُمَّ نُنْجِي» مخففة من أنجى. وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي. وثَقَّل الباقون. وقرأ ابن أبي ليلى «ثَمَّهْ» بفتح الثاء أي هناك. و«ثَمَّ» ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصّل فبنى كما بنى ذا؛ والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل، ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فتثبت في الوصل تاء.