التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً
٨٣
فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً
٨٤
يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً
٨٥
وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً
٨٦
لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٨٧
-مريم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } أي سلطناهم عليهم بالإغواء، وذلك حين قال لإبليس: { { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [الإسراء: 64]. وقيل: «أرسلنا» أي خلينا؛ يقال: أرسلت البعير أي خليته، أي خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم. الزجاج: قَيَّضنا. { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } قال ابن عباس: تزعجهم إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية. وعنه: تغريهم إغراء بالشر: امض امض في هذا الأمر، حتى توقعهم في النار. حكى الأول الثعلبي، والثاني الماوردي، والمعنى واحد. الضحاك: تغويهم إغواء. مجاهد: تشليهم إشلاء، وأصله الحركة والغَلَيان، ومنه الخبر المرويّ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المِرْجل من البكاء" . وائتزت القِدر ائتزازاً اشتد غليانها. والأَزُّ التّهييج والإغراء، قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } أي تغريهم على المعاصي. والأز الاختلاط. وقد أززت الشيء أؤزّه أزًّا أي ضممتُ بعضه إلى بعض. قاله الجوهري.

قوله تعالى: { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي تطلب العذاب لهم. { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } قال الكلبي: آجالهم؛ يعني الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء أجل العذاب. وقال الضحاك: الأنفاس. ابن عباس: أي نعدّ أنفاسهم في الدنيا كما نعدّ سنيهم. وقيل: الخطوات. وقيل: اللذات. وقيل: اللحظات. وقيل: الساعات. وقال قطرب: تعدّ أعمالهم عدًّا. وقيل: لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثماً. روي: أن المأمون قرأ هذه السورة، فمرّ بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء، فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد. وقيل في هذا المعنى:

حياتُك أنفاسٌ تُعدّ فكلّمامَضَى نَفَسٌ منك انتقصت به جُزْءَا
يميتك ما يحييك في كل ليلةويَحدُوك حَادٍ ما يُريد به الهُزءا

ويقال: إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس: اثنا عشر ألف نفس في اليوم، واثنا عشر ألفاً في الليلة ـ والله أعلم ـ فهي تعد وتحصى إحصاء، ولها عدد معلوم، وليس لها مدد، فما أسرع ما تنفد.

قوله تعالى: { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } في الكلام حذف، أي إلى جنة الرحمن، ودار كرامته. كقوله: { { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99] وكما في الخبر: "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" . والوفد اسم للوافدين، كما يقال: صَوْم وفَطْر وزَوْر؛ فهو جمع الوافد، مثل رَكْب وراكب وصَحْب وصاحب، وهو من وفد يفد وَفْداً ووفوداً ووفِادة، إذا خرج إلى ملك في فتح أو أمر خطير. الجوهري: يقال وفد فلان على الأمير، أي ورد رسولاً فهو وافد، والجمع وفد مثل صاحب وصَحْب، وجمع الوفد وِفاد ووفود، والاسم الوِفادة وأوفدته أنا إلى الأمير، أي أرسلته. وفي التفسير: «وفداً» أي ركباناً على نجائب طاعتهم. وهذا لأن الوافد في الغالب يكون راكباً، والوفد الركبان ووحد؛ لأنه مصدر. ابن جريج: وفدا على النجائب. وقال عمرو بن قيس الْمُلاَئي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا ـ إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك. فيقول: كذلك كنتُ في الدنيا أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم، وتلا { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا ـ إلا أن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك. فيقول: كذلك كنتُ في الدنيا أنا عملك السّييء طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك. وتلا { { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } [الأنعام: 31]. ولا يصح من قِبل إسناده. قاله ابن العربي في «سراج المريدين». وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، عن ابن عباس بلفظه ومعناه. وقال أيضاً عن ابن عباس: من كان يحب ركوب الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تَرُوث ولا تَبول، لجمها من الياقوت الأحمر، ومن الزبرجد الأخضر، ومن الدر الأبيض، وسروجها من السندس والاستبرق، ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تَبْعَر ولا تبول، أزمتها من الياقوت والزبرجد، ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من زبرجد وياقوت، قد أمنوا الغرق، وأمنوا الأهوال. وقال أيضاً عن علي رضي الله عنه: ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه: يا رسول اللهٰ إني قد رأيت الملوك ووفودهم، فلم أر وفداً إلا ركباناً فما وفد الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم لا يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقاً ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبونها حتى يقرعوا باب الجنة" . ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن عليّ أبين. وقال عليّ لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفداً إلا ركباناً. قال: "يا عليّ إذا كان المنصرَف من بين يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } " .

قلت: وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف، وأما إذا خرجوا من القبور فمشاةً حُفاةً عُراة غُرلاً إلى الموقف؛ بدليل حديث ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله ـ تعالى ـ حُفَاةً عُرَاة غُرْلاً" الحديث. خرجه البخاري ومسلم، وسيأتي بكماله في سورة «المؤمنون» إن شاء الله تعالى. وتقدّم في «آل عمران» من حديث عبد الله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى. ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء، فيكون حديث ابن عباس مخصوصاً؛ والله أعلم. وقال أبو هريرة: «وفداً» على الإبل. ابن عباس: ركباناً يؤتون بنوق من الجنة؛ عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها. وقال عليّ: ما يحشرون والله على أرجلهم، ولكن على نوق رحالها من ذهب، ونجب سروجها يواقيت، إن هَمُّوا بها سارت وإن حركوها طارت. وقيل: يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن، على ما تقدّم عن ابن عباس. والله أعلم. وقيل: إنما قال «وفداً» لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبِشارات، وينتظرون الجوائز، فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب. { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } السوق الحثّ على السير. و«وِردا» عِطاشا؛ قاله ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما والحسن. والأخفش والفراء وابن الأعرابي: حفاة مشاة. وقيل: أفراداً. وقال الأزهري: أي مشاة عِطاشا، كالإبل ترد الماء؛ فيقال: جاء وِرد بني فلان. القشيري: وقوله: «وِرداً» يدل على العطش؛ لأن الماء إنما يورد في الغالب للعطش. وفي «التفسير»: مشاة عِطاشاً تتقطع أعناقهم من العطش، وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة. وقيل: «وِردا» أي الورود؛ كقولك: جئتك إكراماً لك أي لإكرامك، أي نسوقهم لورود النار.

قلت: ولا تناقض بين هذه الأقوال، فيساقون عِطاشاً حفاة مشاة أفراداً. قال ابن عرفة: الوِرد القوم يردون الماء، فسمي العطاش ورداً لطلبهم ورود الماء؛ كما تقول: قوم صَوْم أي صيام، وقوم زَوْر أي زوّار، فهو اسم على لفظ المصدر، واحدهم وارد. والوِرد أيضاً الجماعة التي ترد الماء من طير وإبل. والورد الماء الذي يوردُ. وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء. والورد الجزء (من القرآن) يقال: قرأت وِردي. والوِرد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت. فظاهره لفظ مشترك. وقال الشاعر يصف قَلِيبا:

يَطْمو إذا الوِرْدُ عليه الْتَكَّا

أي الورّاد الذين يريدون الماء.

قوله تعالى: { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ } أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لأحد { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } وهم المسلمون فيملكون الشفاعة، فهو استثناء الشيء من غير جنسه؛ أي لكن «من اتخذ عِند الرحمنِ عهداً» يشفع؛ فـ«ـمن» في موضع نصب على هذا. وقيل: هو في موضع رفع على البدل من الواو في «يملكون»؛ أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } فإنه يملك؛ وعلى هذا يكون الاستثناء متصلاً. و«المجرمين» في قوله: { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } يعم الكفرة والعصاة، ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون، فإنهم يملكونها بأن يشفع فيهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إلٰه إلا الله محمد رسول الله فيقول: يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي" خرجه مسلم بمعناه، وقد تقدّم. وتظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيُشفَّعون؛ وعلى القول الأول يكون الكلام متصلاً بقوله: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } فلا تقبل غداً شفاعة عبدة الأصنام لأحد، ولا شفاعة الأصنام لأحد، ولا يملكون شفاعة أحد لهم؛ أي لا تنفعهم شفاعة؛ كما قال: { { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر: 48]. وقيل: أي نحشر المتقين والمجرمين ولا يملك أحد شفاعة { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } أي إذا أذن له الله في الشفاعة. كما قال: { { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]. وهذ العهد هو الذي قال «أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً» وهو لفظ جامع للإيمان وجميع الأعمال الصالحة التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع. وقال ابن عباس: العهد لا إلٰه إلا الله. وقال مقاتل وابن عباس أيضاً: لا يشفع إلا من شهد أن لا إلٰه إلا الله، وتبرأ من الحول والقوَّة لله، ولا يرجو إلا الله تعالى. وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً قيل: يا رسول الله وما ذاك؟ قال: يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا بأني أشهد أن لا إلٰه إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك (فلا تكلني إلى نفسي) فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقرِّبني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعاً ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة"