التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمّةً وَسَطاً؛ أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العَدْل؛ وأصل هذا أنّ أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذيّ عن أبي سعيد الخُدْرِيّ "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: عَدْلاً" . قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي التنزيل: « { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } »[القلم:28] أي أعدلهم وخيرهم. وقال زهير:

هُمُ وَسَطٌ يَرضَى الأنامُ بحكمهمإذا نزلتْ إحدى الليالي بِمُعْظَم

آخر:

أنتُم أوسطُ حَيّ علموابصغير الأمر أو إحدى الكُبَر

وقال آخر:

لا تذهَبنّ في الأمور فَرَطالا تسألَن إن سألتَ شَطَطا
وكنْ مِن الناس جميعاً وَسَطا

ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كَلأ وماء. ولما كان الوسط مجانِباً للغلوّ والتقصير كان محموداً؛ أي هذه الأمة لم تَغْل غُلوّ النصارى في أنبيائهم، ولا قَصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم. وفي الحديث: "خير الأمور أوسطها" . وفيه عن عليّ رضي الله عنه: «عليكم بالنَّمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل». وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه؛ أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وَسَط وسَاطة وِسطَة؛ وليس من الوَسط الذي بين شيئين في شيء. والوَسْط (بسكون السين) الظَّرف؛ تقول: صلّيت وَسْط القوم. وجلست وَسَط الدار (بالتحريك) لأنه ٱسم. قال الجوهري: وكل موضع صلَح فيه «بَيْن» فهو وَسْط، وإن لم يصلح فيه «بين» فهو وَسَط بالتحريك، وربما يسكَّن وليس بالوجه.

الثانية: قوله تعالى: { لِّتَكُونُواْ } نصب بلام كي؛ أي لأن تكونوا. { شُهَدَآءَ } خبر كان. { عَلَى ٱلنَّاسِ } أي في المحشر للأنبياء على أممهم؛ كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُدْعَى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لَبَيْك وسَعْدَيْك يا رَبّ فيقول هل بلّغت فيقول نعم فيقال لأمّته هل بلّغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول مَن يشهد لك فيقول محمد وأمّته فيشهدون أنه قد بلّغ ويكون الرسول عليكم شَهِيداً فذلك قوله عز وجل { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }..." وذكر هذا الحديث مطوّلاً ٱبن المبارك بمعناه، وفيه: "فتقول تلك الأمم كيف يَشهد علينا مَن لم يُدركنا فيقول لهم الربّ سبحانه كيف تشهدون على مَن لم تُدركوا فيقولون ربّنا بعثت إلينا رسولاً وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصتَ علينا أنهم قد بلّغوا فشَهدنا بما عَهِدتَ إلينا فيقول الربّ صدقوا فذلك قوله عزّ وجلّ وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ـ والوَسَط العَدْل ـ لِتكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيداً" . قال ٱبن أَنْعُم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمّة محمد عليه السلام، إلاّ مَن كان في قلبه حِنّة على أخيه. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت؛ كما ثبت في صحيح مسلم "عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرّت به جنازة فأثْنيَ عليها خيرٌ فقال: وَجَبَتْ وَجبتْ وَجبتْ. ثم مُرّ عليه بأخرى فأُثْنِيَ عليها شرٌّ فقال: وَجَبَتْ وَجبت وَجبتْ. فقال عمر: فدًى لك أَبِي وأُمِّي! مُرَّ بجنازة فأُثْنِيَ عليها خير فقلت: وجبتْ وَجبتْ وَجبتْ ومُرَّ بجنازة فأثْنِي عليها شَرٌّ فقلت: وجبتْ وَجبتْ وَجبتْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً وَجبتْ له الجنة ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار أنتم شُهداء الله في الأرض أنتم شُهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض" . أخرجه البخاري بمعناه. وفي بعض طُرُقه في غير الصحيحين وتلا: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }. وروَى أَبَان ولَيْث عن شَهْر بن حَوْشَب عن عُبَادة بن الصّامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أُعْطِيَتْ أُمّتِي ثلاثاً لم تُعْط إلاّ الأنبياء كان الله إذا بَعث نبيًّا قال له ٱدعني أستجب لك وقال لهذه الأمة ٱدْعُونِي أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبيّ قال له ما جعل عليك في الدِّين من حَرَج وقال لهذه الأمة وما جعل عليكم في الدِّين من حَرَج وكان الله إذا بَعث النبيّ جعله شهيداً على قومه وجعل هذه الأمة شُهداء على الناس" . خرّجه الترمذي الحكيم أبو عبد اللَّه في «نوادر الأصول».

الثالثة: قال علماؤنا: أنبأنا رَبّنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا بٱسم العدالة وتَوْلِيَة خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أوّلاً مكاناً وإن كنا آخراً زماناً؛ كما قال عليه السلام: "نحن الآخِرون الأوّلون" . وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عَدْلاً. وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة إن شاء الله تعالى.

الرابعة: وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحُكْم به؛ لأنهم إذا كانوا عدولا شَهِدوا على الناس. فكلُّ عصرٍ شهيدٌ على مَن بعده؛ فقولُ الصحابة حجّةٌ وشاهدٌ على التابعين، وقولُ التابعين على مَن بعدَهم. وإذ جُعلت الأمة شهداء فقد وَجبَ قبول قولهم. ولا معنى لقول من قال: أريد به جميع الأمة؛ لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة. وبيان هذا في كتب أصول الفقه.

قوله تعالى: { وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة. وقيل: «عليكم» بمعنى لكم؛ أي يشهد لكم بالإيمان. وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم.

قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } قيل: المراد بالقِبْلة هنا القِبلةُ الأولى؛ لقوله: { كُنتَ عَلَيْهَآ }. وقيل: الثانية؛ فتكون الكاف زائدة، أي أنت الآن عليها، كما تقدّم، وكما قال: { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110] أي أنتم، في قول بعضهم، وسيأتي.

قوله تعالى: { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ } قال عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى «لنعلم» لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم؛ كقوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } [الفيل: 1] بمعنى ألم تعلم. وقيل: المعنى إلاّ لتعلموا أننا نعلم؛ فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كَوْنها. وقيل: المعنى لنميِّز أهل اليقين من أهل الشك؛ حكاه ٱبن فُورَك، وذكره الطبري عن ٱبن عباس. وقيل: المعنى إلا ليعلم النبيّ وأتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه؛ كما يقال: فعل الأمير كذا، وإنما فعله أتباعه؛ ذكره المَهدَوِيّ وهو جيّد. وقيل: معناه ليعلم محمد؛ فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصاً وتفضيلاً؛ كما كنَّى عن نفسه سبحانه في قوله: "يٱبن آدَم مَرِضتُ فلم تَعُدْنِي" الحديث. والأوّل أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، عَلِم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلّق بالكل تعلُّقاً واحداً. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى: { { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } [آل عمران: 140]، { { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِين } َ }[محمد: 31] وما أشبه. والآية جواب لقريش في قولهم: « { مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتهِمُ ٱلَّتِي كانُوا عَلَيْهَا } » [البقرة: 142] وكانت قريش تَأْلَف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما أَلِفوه ليَظهر مَن يتبع الرسولَ ممن لا يتبعه. وقرأ الزّهري «إلا ليُعلم» فـ «ـمَن» في موضع رفع على هذه القراءة؛ لأنها ٱسم ما لم يُسَمّ فاعله. وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول. { يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ } يعني فيما أمر به من ٱستقبال الكعبة. { مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } يعني ممن يرتد عن دينه؛ لأن القِبلة لما حُولت ٱرتد من المسلمين قوم ونافق قوم؛ ولهذا قال: { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي تحويلها؛ قاله ٱبن عباس ومجاهد وقتادة. والتقدير في العربية: وإن كانت التحويلة.

قوله تعالى: { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } ذهب الفراء إلى أنّ «إنْ» واللاّم بمعنى ما وإلاّ؛ والبصريون يقولون: هي إنّ الثقيلة خُفّفت. وقال الأخفش: أي وإن كانت القِبْلة أو التحويلة أو التَّوْلية لكبيرة. { إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } أي خَلق الهُدَى الذي هو الإيمان في قلوبهم؛ كما قال تعالى: { { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة: 22] قوله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلّي إلى بيت المَقْدس؛ كما ثبت في البخاريّ من حديث البَرَاء بن عازِب، على ما تقدّم. وخرّج التّرمذي عن ٱبن عباس قال: لما وُجّه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يُصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمّى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نيةٍ وقول وعملٍ. وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قولَ المُرْجِئة: إن الصلاة ليست من الإيمان. وقال محمد بن إسحٰق: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي بالتوجّه إلى القِبلة وتصديقكم لنبيّكم؛ وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين. وروى ٱبن وهب وٱبن القاسم وٱبن عبد الحكم وأشهب عن مالك { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } قال: صلاتكم.

قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } الرأفة أشدّ من الرحمة. وقال أبو عمرو بن العَلاء: الرأفة أكثر من الرحمة؛ والمعنى متقارب. وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» فلْيُنظر هناك. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو «لَرَؤُوف» على وزن فَعُل؛ وهي لغة بني أسد؛ ومنه قول الوليد بن عُقبة:

وشَرُّ الطالبين فلا تكنهيقاتل عمه الرَّؤُف الرحيم

وحكى الكسائيّ أنّ لغة بني أسد «لَرَأْف»، على فَعْل. وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاع «لَرُوف» مثقّلاً بغير همز؛ وكذلك سَهّل كل همزة في كتاب الله تعالى، ساكنةً كانت أو متحركة.