التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٧٣
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع وثلاثون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ }«إنّما» كلمة موضوعة للحصر، تتضمّن النفي والإثبات؛ فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حَصرت ها هنا التحريم، لاسيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المُحَرّم بكلمة «إنما» الحاصرة، فٱقتضى ذلك الإيعاب للقسمين؛ فلا محرّم يخرج عن هذه الآية، وهي مدَنيّة؛ وأكّدها بالآية الأخرى التي رُوِيَ أنها نزلت بعَرَفة: { { قُل لاَ أَجِدُ فِيمَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [الأنعام: 145] إلى آخرها؛ فٱستوفى البيان أوّلاً وآخراً؛ قاله ٱبن العربي. وسيأتي الكلام في تلك في «الأنعام» إن شاء الله تعالى.

الثانية: { ٱلْمَيْتَةَ } نصب بـ «ـحرّم»، و «ما» كافّة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع { ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } على خبر «إنّ» وهي قراءة ٱبن أبي عَبْلة. وفي «حَرّم» ضمير يعود على الذي؛ ونظيره قوله تعالى: { { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [طه: 69]. وقرأ أبو جعفر «حُرِم» بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إمّا على ما لم يُسَمّ فاعله، وإمّا على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاع أيضاً «ٱلْمَيْتَةَ» بالتشديد. الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في مَيْتٍ ومَيّتٍ لغتان. وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يَمُت بعدُ فلا يقال فيه «مَيْت» بالتخفيف؛ دليله قوله تعالى: { { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]. وقال الشاعر:

ليس من مات فٱستراح بمَيْتإنما الميْت مَيّت الأحياء

ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت؛ إلا ما رَوى البَزِّي عن ٱبن كَثير «وَمَا هُوَ بِمَيْتٍ» والمشهور عنه التثقيل؛ وأما قول الشاعر:

إذا ما مات مَيْتٌ من تميمفَسّرك أن يعيش فجىء بزاد

فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة؛ وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت؛ والأوّل أشهر.

الثالثة: الْميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يُذبح؛ وما ليس بمأكول فذكاته كموته؛ كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي «الأنعام» إن شاء الله تعالى.

الرابعة: هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: "أُحِلّت لنا مَيْتَتَانِ الحُوتُ والجراد ودَمانِ الكبدُ والطحال" . أخرجه الدَّارَقُطْنِي، وكذلك: حديث جابر في العَنْبَر يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرّجه البخاريّ ومسلم مع قوله تعالى: { { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ }

[المائدة: 96]، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء الله تعالى.

وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حَيّها ومَيّتها؛ وهو مذهب مالك. وتوقّف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرا! قال ٱبن القاسم: وأنا أتّقيه ولا أراه حراماً.

الخامسة: وقد ٱختلف الناس في تخصيص كتاب الله تعالى بالسُّنة، ومع ٱختلافهم في ذلك ٱتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف؛ قاله ٱبن العربي. وقد يستدلّ على تخصيص هذه الآية أيضاً بما في صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن أبي أَوْفَى قال: غزَوْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حَتْف أنفه؛ وبهذا قال ٱبن نافع وٱبن عبد الحكم وأكثر العلماء، وهو مذهب الشافعيّ وأبي حنيفة وغيرهما. ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حَتْفَ أنفه؛ لأنه من صيد البر، ألاَ ترى أن المُحْرِم يجزئه إذا قتله؛ فأشبه الغزال. وقال أَشْهب: إن مات مِن قطع رِجل أو جناح لم يؤكل؛ لأنها حالة قد يعيش بها ويَنْسُل. وسيأتي لحُكم الجراد مزيد بيان في «الأعراف» عند ذكره، إن شاء الله تعالى.

السادسة: وٱختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات، وٱختلف عن مالك في ذلك أيضاً؛ فقال مَرّة: يجوز الانتفاع بها؛ " لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم: مرّ على شاةِ مَيْمُونة فقال: هَلاَّ أخذتم إهابها" الحديث. وقال مرّة: جملتها محرّم، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع؛ حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس، ولا تُعلف البهائم النجاسات، ولا تُطعم الميتة الكلاب والسباع، وإن أكلتها لم تمنع. ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى: { { حُرِّمت عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ } [المائدة: 3] ولم يخصّ وجهاً من وجه، ولا يجوز أن يقال: هذا الخطاب مُجْمَل؛ لأن المجمل ما لا يُفهم المراد من ظاهره، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى: { حُرِّمَت عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ }، وأيضاً فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء" . وفي حديث عبد اللَّه بن عُكَيم: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَب" . وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر؛ وسيأتي بيان هذه الأخبار والكلام عليها في «النحل» إن شاء الله تعالى.

السابعة: فأما الناقة إذا نُحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذُبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه، إلاّ أن يخرج حيًّا فيُذَكَّى، ويكون له حكم نفسه؛ وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتاً جرى مجرى العضو من أعضائها. ومما يُبيّن ذلك أنه لو باع الشاة وٱستثنى ما في بطنها لم يجز، كما لو ٱستثنى عضواً منها، وكان ما في بطنها تابعاً لها كسائر أعضائها. وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقاً مبتدأ؛ ولو كان منفصلاً عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق. وقد روى جابر رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقةِ تنحر فيكون في بطنها جنين ميّت؛ فقال: إن شئتم فكلوه لأن ذكاته ذكاة أمه" . خرّجه أبو داود بمعناه من حديث أبي سعيد الْخُدْرِي وهو نصّ لا يحتمل. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة «المائدة» إن شاء الله تعالى.

الثامنة: وٱختلفت الرواية عن مالك فِي جِلْد الميتة هل يطهر بالدباغ أولاً؛ فرُوِي عنه أنه لا يطهر، وهو ظاهر مذهبه. ورُوِيَ عنه أنه يطهر؛ لقوله عليه السلام: "أَيُّمَا إهابٍ دُبغ فقد طَهُر" . ووجه قوله: لا يطهر؛ بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجساً، فوجب ألاّ يطهره الدّباغ قياساً على اللحم. وتُحمل لأخبار بالطهارة على أن الدباغ يُزيل الأوساخ عن الجلد حتى يُنتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه، ويجوز أيضاً أن يُنتفع به في الماء بأن يجعل سقاء؛ لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغيّر له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة «الفرقان». والطهارة في اللغة متوجّهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجّه إلى الطهارة الشرعية، والله تعالى أعلم.

التاسعة: وأما شعر الميتة وصوفُها فطاهر؛ لما رُوِيَ عن أمّ سَلَمة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا بأس بمَسْك الميتة إذا دُبِغ وصوفها وشعرها إذا غُسل" . ولأنه كان طاهراً لو أُخِذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أن اللحم لما كان نجساً في حال الحياة كان كذلك بعد الموت؛ فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة ٱستدلالاً بالعكس. ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة؛ لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت، وكذلك البيضة؛ ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجَسَا بمجاورة الوعاء لا أنهما نُجِّسَا بالموت. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة «النحل» إن شاء الله تعالى.

العاشرة: وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان: حالة تكون إن أُخرجت الفأرة حيّة فهو طاهر. وإن ماتت فيه فله حالتان: حالة يكون مائعاً فإنه ينجس جميعه. وحالة يكون جامداً إنه ينجس ما جاورها، فتُطرح وما حولها، ويُنتفع بما بقي وهو على طهارته؛ لما روِي "أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت؛ فقال عليه السلام: إن كان جامداً فٱطرحوها وما حَوْلها وإن كان مائعاً فأرِيقُوه" . وٱختلف العلماء فيه إذا غُسل؛ فقيل: لا يطهر بالغسل؛ لأنه مائع نجس فأشبه الدّم والخمر والبول وسائر النجاسات. وقال ٱبن القاسم: يطهر بالغسل؛ لأنه جسم تنجّس بمجاورة النّجاسة فأشبه الثوب؛ ولا يلزم على هذا الدم؛ لأنه نجس بعينه، ولا الخمر والبول لأن الغسل يستهلكهما ولا يتأتّى فيه.

الحادية عشرة: فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع؛ لكن لا يبيعه حتى يبيّن؛ لأن ذلك عَيْب عند الناس تأباه نفوسهم. ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته؛ فلا يجوز بيعه حتى يبيّن العيب كسائر الأشياء المَعِيبة. وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال؛ لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر، "ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن ثمن الخمر فقال: لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشُّحوم فَجَملُوها فباعوها وأكلوا أثمانها" . وأن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه. وهذا المائع محرّم لنجاسته فوجب أن يحرّم ثمنه بحكم الظاهر.

الثانية عشرة: وٱختلف إذا وقع في القدر حيوان، طائر أو غيره (فمات) فروى ٱبن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القِدْر، وقد تنجّس بمخالطة الميتة إياه. وروى ٱبن القاسم عنه أنه قال: يُغسل اللحم ويُراق المرق. وقد سئل ٱبن عباس عن هذه المسألة فقال: يغسل اللحم ويؤكل. ولا مخالف له في المرق من أصحابه؛ ذكره ٱبن خُوَيْزِ مَنْدَاد.

الثالثة عشرة: فأما أنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعيّ: ذلك نجس لعموم قوله تعالى { { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [المائدة: 3]. وقال أبو حنيفة بطهارتهما؛ ولم يجعل لموضِع الخِلقة أثراً في تنّجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بم فيه من العروق، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعاً. وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتّى فيه الغسل. وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها؛ لأن البيضة لَيّنة في حكم المائع قبل خروجها، وإنما تجمد وتصلب بالهواء.

قال ٱبن خُوَيْزِ مَنْدَاد فإن قيل: فقولكم يؤدِّي إلى خلاف الإجماع؛ وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوباً إليهم من أرض العجم، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس مَيْتة، ولم يعتدّوا بأن يكون مجمداً بأنفحة مَيْتَة أو ذُكي. قيل له: قدر ما يقع من الأنفحة في اللبن المجبّن يسير؛ واليسير من النجاسة معفوّ عنه إذا خالط الكثير من المائع. هذا جواب على إحدى الروايتين. وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أوّل الإسلام، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم، بل الجبن ليس من طعام العرب؛ فلما ٱنتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم؛ فمن أين لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلت جبناً فضلاً عن أن يكون محمولاً من أرض العجم ومعمولاً من أنفحة ذبائحهم!.

وقال أبو عمر: ولا بأس بأكل طعام عَبَدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من أنفحة الميتة. وفي سنن ٱبن ماجه «الجبن والسمن» حدّثنا إسماعيل بن موسى السدّي حدّثنا سيف بن هارون عن سليمان التيميّ عن أبي عثمان النَّهدي عن سلمان الفارسي قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفِراء. فقال: الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" .

الرابعة عشرة: قوله تعالى: { وَٱلْدَّمَ } ٱتفق العلماء على أن الدَّم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ٱبن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وأما الدّم فمحرّم ما لم تعمّ به البلوى، ومعفوّ عما تعمّ به البلوى. والذي تعمّ به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يُصلَّى فيه. وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى قال: { { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } [المائدة: 3]، وقال في موضع آخر: { قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } فحرم المسفوح من الدم. وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نطبخ البُرْمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصُّفرة من الدم فنأكل ولا ننكره؛ لأن التحفظ من هذا إصْرٌ وفيه مشقة، والإصْر والمشقة في الدِّين موضوع. وهذا أصل في الشرع، أن كلما حَرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثَقُل عليها سقطت العبادة عنها فيه؛ ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يُفطر ويَتَيَمّم في نحو ذلك.

قلت: ذكر الله سبحانه وتعالى الدم ها هنا مطلقاً، وقيّده في الأنعام بقوله « { مَسْفُوحاً } »[الأنعام: 145] وحمل العلماء ها هنا المطلق على المقيّد إجماعاً. فالدم هنا يراد به المسفوح؛ لأن ما خالط اللحم فغير محرّم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه. وفي دم الحوت المزايل له ٱختلاف؛ ورُوي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم على طهارته أنه غير محرّم. وهو ٱختيار ٱبن العربي، قال: لأنه لو كان دم السمك نجساً لشُرِعت ذكاته.

قلت: وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت؛ سمعت بعض الحنفيّة يقول: الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس ٱبيضّ بخلاف سائر الدماء فإنه يسودّ. وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية.

الخامسة عشرة: قوله تعالى: { وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } خصّ الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذُكيَ أو لم يُذَكَّ، وليعمّ الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها.

السادسة عشرة: أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير. وقد ٱستدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألاّ يأكل شحماً فأكل لحماً لم يَحْنَث بأكل اللحم. فإن حلف ألا يأكل لحماً فأكل شحماً حَنِث؛ لأن اللحم مع الشحم يقع عليه ٱسم اللحم؛ فقد دخل الشحم في ٱسم اللحم ولا يدخل اللحم في ٱسم الشحم. وقد حرّم الله تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه؛ لأنه دخل تحت ٱسم اللحم. وحرّم الله تعالى على بني إسرائيل الشُّحوم بقوله: « { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } » [الأنعام: 146] فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في ٱسم الشحم؛ فلهذا فرّق مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم؛ إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث؛ والله تعالى أعلم. ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثَور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحماً فأكل شحماً. وقال أحمد: إذا حلف ألا يأكل لحماً فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد ٱجتناب الدسم.

السابعة عشرة: لا خلاف أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. "وقد رُوي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخِرازة بشعر الخنزير؛ فقال: لا بأس بذلك" ذكره ٱبن خُوَيْزِ مَنْدَاد، قال: ولأن الخِرازة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت، وبعده موجودة ظاهرة، لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده. وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه.

الثامنة عشرة: لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا؛ وفي خنزير الماء خلاف. وأبى مالك أن يجيب فيه بشيء، وقال: أنتم تقولون خنزيرا! وقد تقدّم؛ وسيأتي بيانه في «المائدة» إن شاء الله تعالى.

التاسعة عشرة: ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية. وحكى ٱبن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خَزَر العَيْن؛ لأنه كذلك ينظر، واللفظة على هذا ثلاثية. وفي الصّحاح: وتَخازر الرَّجُل إذا ضيّق جَفْنه ليحدّد النظر. والخَزَر: ضِيق العين وصغرها. رجل أَخْزَر بيّن الخَزَر. ويقال: هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمُؤْخُرها. وجمعُ الخنزير خنازير. والخنازير أيضاً علّة معروفة، وهي قروح صُلْبة تحدث في الرقبة.

الموّفية عشرين: قوله تعالى: { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } أي ذكر عليه غير ٱسم الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسيّ والوَثَنيّ والمُعَطِّل. فالْوَثنيّ يذبح للوثَن، والمجوسيّ للنار، والمُعَطِّل لا يعتقد شيئاً فيذبح لنفسه. ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسيّ لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه؛ وأجازهما ٱبن المسيّب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في سورة «المائدة». والإهلال: رفع الصوت؛ يقال: أَهَلَّ بكذا؛ أي رفع صوته. قال ٱبن أحمر يصف فلاة:

يُهِلّ بالفَرْقَد رُكبانُهاكما يُهِلّ الراكب المُعْتَمِر

وقال النابغة:

أو دُرّةٌ صَدَفيّةٌ غَوّاصُهابَهجٌ متى يرها يُهِلّ ويَسجُدُ

ومنه إهلال الصبيّ وٱستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال ٱبن عباس وغيره: المراد ما ذُبح للأَنصاب والأوثان، لا ما ذُكر عليه ٱسم المسيح؛ على ما يأتي بيانه في سورة «المائدة» إن شاء الله تعالى. وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في ٱستعمالهم حتى عبّر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال: إنها مما أُهِلّ لغير الله به؛ فتركها الناس. قال ٱبن عطية: ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن ٱمرأة مترفة صنعت للُعَبِها عرساً فنحرت جَزُوراً؛ فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نُحرت لصنم.

قلت: ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال: أخبرنا جرير عن قابوس قال: أرسل أبي ٱمرأة إلى عائشة رضي الله عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أيّة صلاة كانت أعجبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدوم عليها. قالت: كان يصلّي قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأمّا ما لم يَدَع قطّ، صحيحاً ولا مريضاً ولا شاهداً، ركعتين قبل صلاة الغداة. قالت ٱمرأة عند ذلك من الناس: يا أمّ المؤمنين، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه، أفنأكل منه شيئاً؟ قالت: أمّا ما ذُبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم.

الحادية والعشرون: قوله تعالى: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ } قرىء بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين، وفيه إضمار؛ أي فمن ٱضطر إلى شيء من هذه المحرّمات أي أُحْوِج إليها؛ فهو ٱفتعل من الضرورة. وقرأ ٱبن مُحَيْصِن «فمن ٱطُّرَّ» بإدغام الضاد في الطاء. وأبو السّمال «فَمَنِ ٱضْطِرَّ» بكسر الطاء. وأصله ٱضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء.

الثانية والعشرون: الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مَخْمَصَة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيّره العُدْم والغَرَث وهو الجوع إلى ذلك؛ وهو الصحيح. وقيل: معناه أُكره وغُلب على أكل هذه المحرّمات. قال مجاهد: يعني أُكره عليه كالرجل يأخذه العدوّ فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى؛ إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه.

وأما الْمَخْمَصَة فلا يخلو أن تكون دائمة أولاً؛ فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة؛ إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قَطْعاً؛ كالتمر المعلّق وحَرِيسة الجبل، ونحو ذلك مما لا قَطْع فيه ولا أذًى. وهذا مما لا ٱختلاف فيه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلاً مصرورة بِعضاه الشجر فثُبْنا إليها فنادانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا إليه فقال: إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويُمْنُهم بعد الله أيسّركم لو رجعتم إلى مَزَاودكم فوجدتم ما فيها قد ذُهب به أترون ذلك عدلاً قالوا لا؛ فقال: إن هذه كذلك. قلنا: أفرأيت إن ٱحتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: كل ولا تحمل وٱشرب ولا تحمل" . خرّجه ٱبن ماجهرحمه الله ؛ وقال: هذا الأصل عندي. وذكره ٱبن المنذر قال: " قلنا يا رسول الله، ما يحلّ لأحدنا من مال أخيه إذا ٱضطر إليه؟ قال: يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل" . قال ٱبن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله الأموال. قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعيّن عليه ردّ رَمَق مُهْجة المسلم، وتوجّه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضي عليه بنرميق تلك المهجة الآدمية. وكان للممنوع منه ماله من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه؛ وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير؛ فحينئذ يتعيّن عليه الفرض. فإن كانوا كثيراً أو جماعةً وعدداً كان ذلك عليهم فرضاً على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يردّ نفس المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم ٱختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردّت به مهجته ورمق به نفسه؛ فأوجبها موجبون، وأباها آخرون؛ وفي مذهبنا القولان جميعاً. ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدّميهم في وجوب رَدّ مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتّلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البُلْغة.

الثالثة والعشرون: خرّج ٱبن ماجة أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شَبابة (ح) وحدّثنا محمد بن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدّثنا محمد بن جعفر حدّثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال: "سمعت عبّاد بن شرحبيل ـ رجلاً من بني غُبَر ـ قال: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطاً من حيطانها فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلته في كسائي؛ فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي؛ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فقال للرجل: ما أطعمتَه إذ كان جائعاً أو ساغباً ولا علّمته إذ كان جاهلاًفأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ إليه ثوبه، وأمر له بِوَسْق من طعام أو نصفَ وِسق"

قلت: هذا حديث صحيح ٱتفق على رجاله البخاريّ ومسلم؛ إلا ٱبن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده. وعبّاد بن شرحبيل الغُبَري اليشكُري لم يُخرج له البخاري ومسلم شيئاً، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمررحمه الله ، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة. وقد روى أبو داود عن الحسن عن سَمُرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فلْيحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فلْيُصَوت ثلاثاً فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل" . وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ٱبن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل حائطاً فليأكل ولا يتّخذ خُبْنة" . قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق؛ فقال: من أصاب منه من ذي حاجة غير متَّخذ خُبْنة فلا شيء عليه" . قال فيه: حديث حسن. وفي حديث عمر رضي الله عنه: "إذا مرّ أحدكم بحائط فليأكل ولا يتّخذ ثِبَاناً" . قال أبو عبيد قال أبو عمر: وهو الوعاء الذي يُحمل فيه الشيء؛ فإن حملته بين يديك فهو ثِبان؛ يقال: قد تَثَّبنْت ثِباناً؛ فإن حملته على ظهرك فهو الحال؛ يقال منه: قد تَحوّلت كسائي إذا جعلت فيه شيئاً ثم حملته على ظهرك. فإن جعلته في حِضنك فهو خُبْنة؛ ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع «ولا يتّخذ خُبْنة». يقال منه: خَبَنْت أخْبِن خَبْناً. قال أبو عبيد: وإنما يوجّه هذا الحديث أنه رُخّص فيه للجائع المضطّر الذي لا شيء معه يشتري به ألاّ يَحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته.

قلت: لأن الأصل المتّفَق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه؛ فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أوّل الإسلام، أو كما هو الآن في بعض البلدان، فذلك جائز. ويُحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة، كما تقدّم والله أعلم.

وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات؛ فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما: أنه يأكل حتى يشبع ويَتضَلّع؛ ويتزوّد إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غِنىً طرحها. قال معناه مالك في مُوَطَّئه؛ وبه قال الشافعيّ وكثير من العلماء. والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحاً. ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. "وحديث العَنْبر نصٌّ في ذلك؛ فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد، ٱنطلقوا إلى ساحل البحر فرُفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم؛ فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر؛ فقال أبو عبيدة أميرهم: مَيْتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد ٱضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليها شهراً ونحو ثلثمائة حتى سَمِنّا، الحديث. فأكلوا وشبعوا ـ رضوان الله عليهم ـ مما ٱعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حلال وقال: هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله" . وقالت طائفة. يأكل بقدر سدّ الرمق. وبه قال ٱبن الماجشون وٱبن حبيب وفرّق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسدّ رمقه، والمسافر يتضلّع ويتزوّد: فإذا وجد غِنىً عنها طرحها، وإن وجد مضطراً أعطاه إياها ولا يأخذ منه عِوضاً؛ فإن المَيْتة لا يجوز بيعها.

الرابعة والعشرون: فإن ٱضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب؛ وبه قال مالك في العتبيّة قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشاً. وهو قول الشافعي؛ فإن الله تعالى حرّم الخمر تحريماً مطلقاً، وحرّم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الأبْهري: إن ردّت الخمر عنه جوعاً أو عطشاً شربها؛ لأن الله تعالى قال في الخنزير { فَإِنَّهُ } ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها { رِجْسٌ } فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجليّ الذي هو أقوى من القياس، ولا بدّ أن تروِي ولو ساعة وترد الجوع ولو مدّة.

الخامسة والعشرون: روى أصبَغ عن ٱبن القاسم أنه قال: يشرب المضطرُّ الدّمَ ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضَوَالَ الإبل ـ وقاله ٱبن وهب ـ ويشرب البول ولا يشرب الخمر؛ لأن الخمر يلزم فيها الحدّ فهي أغلظ. نص عليه أصحاب الشافعي.

السادسة والعشرون: فإن غصّ بلقمة فهل يسيغها بخمر أولاً؛ فقيل: لا؛ مخافة أن يدّعي ذلك. وأجاز ذلك ٱبن حبيب؛ لأنها حالة ضرورة. ٱبن العربي: «أما الغاصّ بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغُصّة من غيرها؛ فيصدق إذا ظهر ذلك؛ وإن لم يظهر حَدَدناه ظاهراً وسَلِم من العقوبة عند الله تعالى باطناً. ثم إذا وجد المضطرُّ ميتةً وخنزيراً ولحمَ ٱبنِ آدم أكل الميتة؛ لأنها حلال في حال. والخنزيرُ وٱبنُ آدم لا يحلّ بحال. والتحريم المخفَّف أوْلى أن يقتحم من التحريم المثقل؛ كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطىء الأجنبية لأنها تحل له بحال. وهذا هو الضابط لهذه الأحكام. ولا يأكل ٱبنَ آدم ولو مات؛ قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود. احتّج أحمد بقوله عليه السلام: "كَسْرُ عظمِ الميت ككسره حيًّا" . وقال الشافعيّ: يأكل لحم ٱبن آدم. ولا يجوز له أن يقتل ذِمِّياً لأنه محترم الدّم، ولا مسلماً ولا أسيراً لأنه مال الغير. فإن كان حربياً أو زانياً مُحْصناً جاز قتله والأكل منه. وشنّع داود على المُزَني بأن قال: قد أبحت أكل لحوم الأنبياء! فغلب عليه ٱبن شريح بأن قال: فأنت قد تعرّضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر. قال ٱبن العربي: الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقّق أن ذلك ينجيه ويحييه؛ والله أعلم.

السابعة والعشرون: سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمراً أو زرعاً أو غَنماً؛ فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يُعدّ سارقاً ويصدَّق في قوله، أكل من أيّ ذلك وجد ما يردّ جوعه ولا يحمل منه شيئاً، وذلك أحبّ إليّ من أن يأكل الميتة؛ وقد تقدم هذا المعنى مستوفىً. وإن هو خَشِيَ ألا يصدّقوه وأن يعدّوه سارقاً فإنّ أكل الميتة أجْوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سَعة.

الثامنة والعشرون: روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدّثنا حماد عن سِمَاك بن حرب عن جابر بن سَمُرة: "أن رجلاً نزل الحَرّة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضَلّت فإن وجدتها فأمسكها؛ فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت ٱمرأته: ٱنحرها، فأبى فَنَفَقَت. فقالت: اسلخها حتى نُقدّد لحمها وشحمها ونأكله؛ فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال: هل عندك غِنىً يغنيك قال لا، قال: فكلوها" قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر؛ فقال: هلاّ كنت نحرتَها! فقال: ٱستحييت منك. قال ٱبن خُوَيْزِ مَنْداد: في هذا الحديث دليلان: أحدهما: أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التّلف؛ لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه. والثاني: يأكل ويشبع ويدّخر ويتزوّد؛ لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألاّ يشبع. قال أبو داود: وحدثنا هارون بن عبد اللَّه قال حدثنا الفضل بن دُكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبي يحدّث عن الفُجَيع العامريّ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لنا الميتة؟ قال: «ما طعامكم» قلنا: نَغْتَبِق ونصطبح. قال أبو نعيم: فسّره لي عقبة: قَدَحٌ غُدْوَةً وقدحٌ عشِيّة. قال: «ذاك وأبِي الجوع». قال: فأحلّ لهم الميتة على هذه الحال. قال أبو داود: الغبوق من آخر النهار والصبوح من أوّل النهار. وقال الخطابي: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقَدَح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرَّمق ويُقيم النفس، وإن كان لا يُغذّي البدن ولا يُشبع الشبع التام؛ وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة؛ فكان دلالته أنّ تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت. وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قوليْ الشافعي. قال ٱبن خُوَيْزِ مَنْدَاد: إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزوّدوا. وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر: لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه؛ وإليه ذهب المزنيّ. قالوا: لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئاً؛ فكذلك إذا بلغها بعد تناولها. وروي نحوه عن الحسن. وقال قتادة: لا يتضلّع منها بشيء. وقال مقاتل بن حَيّان: لا يزداد على ثلاث لُقَم. والصحيح خلاف هذا؛ كما تقدّم.

التاسعة والعشرون: وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى ٱستعمالها قائمة العين أو محرقة؛ فإن تغيّرت بالإحراق فقال ٱبن حبيب: يجوز التداوي بها والصلاة. وخفّفه ٱبن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغيّر الصفات. وفي العُتْبِيّة من رواية مالك في المَرْتَك يُصنع من عظام الْميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله. وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سُحْنُون: لا يُتداوى بها بحال ولا بالخنزير؛ لأن منها عوضاً حلالاً بخلاف المجاعة. ولو وُجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل. وكذلك الخمر لا يتداوى بها، قاله مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو ٱختيار ٱبن أبي هريرة من أصحابه. وقال أبو حنيفة: يجوز شربها للتداوي دون العطش؛ وهو ٱختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي، وهو قول الثوري: وقال بعض البغداديين من الشافعية: يجوز شربها للعطش دون التداوي؛ لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي. وقيل: يجوز شربها للأمرين جميعاً. ومنع بعض أصحاب الشافعيّ التداوي بكل محرّم إلا بأبوال الإبل خاصة؛ لحديث العُرَنِيِّين. ومنع بعضهم التداوي بكل محرّم؛ لقوله عليه السلام: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حُرّم عليهم" "ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كرِه أن يصنعها فقال؛ إنما أصنعها للدواء؛ فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء" . رواه مسلم في الصحيح. وهذا يحتمل أن يقيّد بحالة الاضطرار؛ فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه؛ والله أعلم.

الموفّية ثلاثين: قوله تعالى: { غَيْرَ بَاغٍ } «غير» نصب على الحال، وقيل: على الاستثناء. وإذا رأيت «غير» يصلح في موضعها«في» فهي حال، وإذا صلح موضعها { إِلاَ } فهي ٱستثناء، فقس عليه. و «باغ» أصله باغي، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها. والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وٱبن زيد وعكرمة «غير باغ» في أكله فوق حاجته، «ولا عادٍ» بأن يجد عن هذه المحرّمات مندوحة ويأكلها. وقال السدّي: «غير باغٍ» في أكلها شهوة وتلذذاً، «ولا عاد» بٱستيفاء الأكل إلى حدّ الشبع. وقال مجاهد وٱبن جبير وغيرهما: المعنى { غَيْرَ بَاغٍ } على المسلمين «ولا عادٍ» عليهم؛ فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله. وهذا صحيح؛ فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد؛ يقال: بَغَت المرأة تبغي بِغاء إذا فَجَرت؛ قال الله تعالى: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } [النور: 33]. وربما ٱستعمل البغي في طلب غير الفساد. والعرب تقول: خرج الرجل في بُغاء إبلٍ له، أي في طلبها؛ ومنه قول الشاعر:

لا يمنَعنّك من بُغاء الخير تَعْقادُ الرَّتائم
إن الأَشائم كالأيَامِن والأيامن كالأشائم

الحادية والثلاثون: قوله تعالى: { وَلاَ عَادٍ } أصل «عاد» عائد؛ فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهَارٍ ولاَثٍ. والأصل شائك وهائر ولائث؛ من لُثْت العمامة. فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرّمات لعجزه عن جميع المباحات كما بيّنا؛ فصار عدم المباح شرطاً في ٱستباحة المحرّم.

الثانية والثلاثون: وٱختلف العلماء إذا ٱقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيلِ؛ فحظرها عليه مالك والشافعيّ في أحد قوليه لأجل معصيته؛ لأن الله سبحانه أباح ذلك عوناً، والعاصي لا يحلّ أن يُعان؛ فإن أراد الأكل فليَتُب وليأكل. وأباحها له أبو حنيفة والشافعيّ في القول الآخر له، وسوّيا في ٱستباحته بين طاعته ومعصيته. قال ٱبن العربي: وعَجَباً ممن يبيح له ذلك مع التّمادي على المعصية، وما أظن أحداً يقوله، فإن قاله فهو مخطىء قطعاً.

قلت: الصحيح خلاف هذا؛ فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشدّ معصية مما هو فيه، قال الله تعالى: { { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [النساء: 29] وهذا عامّ، ولعلّه يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان. وقد قال مسروق: من ٱضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو الله عنه. قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكِيَا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رُخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو ٱمتنع من أكل الميتة كان عاصياً، وليس (تناول) الميتة من رخص السفر أو متعلقاً بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفراً كان أو حَضَراً، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضاً، وكالتيمّم للعاصي المسافر عند عدم الماء. قال: وهو الصحيح عندنا.

قلت: وٱختلفت الروايات عن مالك في ذلك؛ فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى: أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر. وقال ٱبن خُوَيْزِ مَنْداد: فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء؛ لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيماً؛ وليس كذلك الفطر والقصر؛ لأنهما رخصتان متعلّقتان بالسفر. فمتى كان السفر سفَر معصية لم يجز أن يقصر فيه؛ لأن هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا: إنه يتيّمم إذا عدم الماء في سفر المعصية؛ لأن التيمم في الحضر والسفر سواء. وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ٱرتكبها، وفي تركه الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة. أيجوز أن يقال له: ٱرتكبت معصية فارتكب أخرى! أيجوز أن يقال لشارب الخمر: ازن، وللزاني: اكفر! أو يقال لهما: ضيّعا الصلاة؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له، ولم يذكر خلافاً عن مالك ولا عن أحد من أصحابه. وقال الباجي: «وروى زياد ابن عبد الرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة، ويُفطر في رمضان. فسوّى بين ذلك كله، وهو قول أبي حنيفة. ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب؛ ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة، بل يلزمه الإتيان بها؛ فكذلك ما ذكرناه. وجه القول الأوّل أن هذه المعاني إنما أبيحت في الأسفار لحاجة الناس إليها؛ فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألاّ يقتل نفسه. قال ٱبن حبيب: وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته. وتعلّق ٱبن حبيب في ذلك بقوله تعالى: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألاّ يكون باغياً. والمسافر على وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحِم أو طالب إثم ـ باغٍ ومعتد؛ فلم توجد فيه شروط الإباحة، والله أعلم».

قلت: هذا ٱستدلال بمفهوم الخطاب، وهو مختلف فيه بين الأصوليين. ومنظوم الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد لا إثم عليه، وغيره مسكوت عنه، والأصل عموم الخطاب؛ فمن ٱدعى زواله لأمرٍ ما فعليه الدليل.

الرابعة والثلاثون: قوله تعالى: { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يغفر المعاصي؛ فأولى ألا يؤاخِذ بما رخّص فيه، ومن رحمته أنه رخّص.