قوله تعالى: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } «صُمٌّ» أي هم صمّ، فهو خبر ٱبتداء مضمر. وفي قراءة عبد اللَّه ٱبن مسعود وحفصة: صُماًّ بكماً عمياً، فيجوز النصب على الذّم؛ كما قال تعالى:
{ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } [الأحزاب:61]، وكما قال: { وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ } [المسد:4]، وكما قال الشاعر:سَقَوْنِي الخمرَ ثم تَكنَّفُونِيعُدَاةَ الله من كَذِبٍ وزُورِ
فنصب «عُداةَ الله» على الذم. فالوقف على «يبصرون» على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صُمًّا بـ «ـتَرَكَهُمْ»؛ كأنه قال: وتركهم صماً بكماً عمياً؛ فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على «يبصرون». والصمم في كلام العرب: الانسداد؛ يقال: قناة صمّاء إذا لم تكن مجوّفة. وصَمَمت القارورة إذا سددتها. فالأصم: من ٱنسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأخرس والأبكم واحد. ويقال: رجل أبكم وبَكِيم؛ أي أخرس بيّن الخرس والبكم؛ قال:فلْيتَ لِسانِي كان نِصْفَينِ منهمابَكيمٌ ونِصفٌ عند مَجْرَى الكواكبِ
والعمى: ذهاب البصر؛ وقد عَمِيَ فهو أعْمَى، وقوم عُمْيٌ، وأعماه الله. وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعَمِيَ عليه الأمر إذا التبس؛ ومنه قوله تعالى: { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ } [القصص:66]. وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة مّا؛ تقول: فلان أصمّ عن الخنا. ولقد أحسن الشاعر حيث قال:أَصَمُّ عمّا سَاءَهُ سَمِيعُ
وقال آخر:وعوراءِ الكلامِ صَمَمتُ عنهاولو أني أشاء بها سمِيعُ
وقال الدارميّ:أعْمى إذا ما جارتي خرجتحتى يوارِي جارتِي الجُدْرُ
وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك:اُدخُلُ إذا ما دخلتَ أعمَىوٱخرُجْ إذا ما خرجتَ أخرس
وقال قتادة: «صمٌّ» عن ٱستماع الحق، «بكمٌ» عن التكلم به، «عميٌ» عن الإبصار له. قلت: وهذا المعنى هو المراد في وصف النبيّ صلى الله عليه وسلم وُلاة آخر الزمان في حديث جبريل:
"وإذا رأيت الحُفاةَ العُراةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ ملوك الأرض فذاك من أشراطها" . والله أعلم. قوله تعالى: { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال: رجع بنفسه رجوعاً، ورَجَعَه غيره؛ وهُذيل تقول: أرجعه غيره. وقوله تعالى:
{ { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ } [سبأ:31] أي يتلاومون فيما بينهم؛ حسب ما بيّنه التنزيل في سورة «سبأ».