التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢١٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ٱثنتا عشرة مسألة:

الأُولى ـ قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ } تقدّم القول فيه. وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فُضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهنّ في القرآن: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ } [البقرة: 222]، «يسألونك عن الشهر الحرام»، { { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ } [البقرة: 220]؛ ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. قال ٱبن عبد البر: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث. وروى أبو السوار عن جُنْدب بن عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث؛ فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبعث عبدَ الله بن جَحْش، وكتب له كتاباً وأمره ألاّ يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: ولا تكرهنّ أصحابك على المسير؛ فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فٱسترجع وقال: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله، قال: فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوْا ابن الحَضْرمِيّ فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب؛ فقال المشركون: قتلتم في الشهر الحرام؛ فأنزل الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } الآية. وروي أن سبب نزولها أن رجلين من بني كلاب لقيا عمرو بن أُميّة الضَّمْريّ وهو لا يعلم أنهما كانا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك في أوّل يوم من رجب فقتلهما؛ فقالت قريش: قتلهما في الشهر الحرام؛ فنزلت الآية. والقول بأن نزولها في قصة عبد الله بن جحش أكثر وأشهر، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه مع تسعة رَهْط، وقيل ثمانية، في جمادى الآخرة قبل بَدْر بشهرين، وقيل في رجب. قال أبو عمر ـ في كتاب الدرر له ـ: ولَمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كُرْز ٱبن جابر ـ وتُعرف تلك الخرجة ببدر الأُولى ـ أقام بالمدينة بقية جمادى الآخرة ورجب، وبعث في رجب عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم أبو حذيفة بن عُتبة، وعُكّاشة بن مِحْصَن، وعُتْبة بن غَزْوان، وسُهيل بن بَيْضاء الفهريّ، وسعد بن أبي وَقّاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وخالد بن بُكير الليثيّ. وكتب لعبد الله بن جحش كتاباً، وأمره ألاّ ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه (فيمضي لِمَا أمره به) ولا يسْتَكْرِه أحداً من أصحابه، وكان أميرهم، ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به؛ فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فٱمض حتى تنزل نَخْلة بين مكة والطّائف فتَرصَّدْ بها قريشاً، وتَعلَّمْ لنا من أخبارهم». فلما قرأ الكتاب قال: سمعاً وطاعةً؛ ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكره أحداً منهم، وأنه ناهضٌ لوجهه بمن أطاعه، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وَحْدَه؛ فمن أحبّ الشهادة فلْيَنْهَضَ، ومن كره الموت فليرجع. فقالوا: كلنا نرغب فيما ترغب فيه، وما مِنّا أحدٌ إلا وهو سامعٌ مطيعٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهضوا معه؛ فسلك على الحجاز، وشَرَد لسعد بن أبي وَقّاص وعُتْبة بن غَزْوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونَفَذ عبد الله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة؛ فمرّت بهم عِيرٌ لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرميّ ـ وٱسم الحضرميّ عبد الله بن عَبّاد من الصَّدَف، والصّدَف بطن من حضرموت ـ وعثمانُ بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميّان، والحَكَم بن كَيْسان مولى بني المغيرة؛ فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام؛ فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام: وإن تركناهم الليلة دخلوا الحَرَم؛ ثم ٱتفقوا على لقائهم، فرمى واقدُ بن عبد الله التميميُّ عمرو بن الحضرميّ فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله والحَكَم بن كَيْسان، وأَفْلَتَ نوفلُ بن عبد الله؛ ثم قدموا بالعِير والأسيرَين، وقال لهم عبد الله ابن جحش: ٱعزلوا مما غَنِمْنا الخمُس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا؛ فكان أوّل خُمُس في الإسلام، ثم نزل القرآن: { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [الأنفال: 41] فأقرّ الله ورسولُه فعلَ عبدِ الله بن جحش ورضيَه وسنّه للأُمة إلى يوم القيامة؛ وهي أوّل غنِيمة غنمت في الإسلام، وأوّل أمير، وعمرو بن الحضرميّ أوّل قتيل. وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ٱبن الحضرميّ في الشهر الحرام، فسُقط في أيدي القوم؛ فأنزل الله عز وجل: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } إلى قوله: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }. وقَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفِداء في الأسيرين؛ فأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة كافراً، وأما الحَكَم بن كَيْسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استُشهد ببئر مَعُونَة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين. وقيل: إن ٱنطلاق سعد ٱبن أبي وَقّاص وعُتْبة في طلب بعيرهما كان عن إذْنٍ من عبد الله ابن جحش، وإن عمرو بن الحَضْرَميّ وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم؛ فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد فزِعوا منكم، فاحلِقوا رأس رجل منكم فليتعرّض لهم، فإذا رأُوْهُ محلوقاً أمنوا وقالوا: قوم عُمّار لا بأس عليكم، وتشاوروا في قتالهم، الحديث. وتفاءلت اليهود وقالوا: واقدٌ وقَدَتِ الحربُ، وعمرُو عمرت الحربُ، والحضرميّ حضرت الحربُ. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم؛ فقال: لا نُفْديهما حتى يَقْدَم سعدٌ وعتبة، وإن لم يَقْدَما قتلناهما بهما؛ فلما قَدِما فاداهما؛ فأما الحكمَ فأسلم وأقام بالمدينة حتى قُتل يوم بئر مَعُونَة شهيداً، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافراً، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخَنْدق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله الله تعالى؛ وطلب المشركون جيفته بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدِّية" فهذا سبب نزول قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ }. وذكر ٱبن إسحاق أن قَتْل عمرو بن الحضرميّ كان في آخر يوم من رجب؛ على ما تقدّم. وذكر الطبريّ عن السُّديّ وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة، والأوّل أشهر؛ على أن ٱبن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أوّل ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى. قال ٱبن عطية: وذكر الصاحب بن عَبّاد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن جحش سُمِّي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمّراً على جماعة من المؤمنين.

الثانية ـ وٱختلف العلماء في نسخ هذه الآية؛ فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحُرُم مباح. وٱختلفوا في ناسخها؛ فقال الزهريّ: نسخها { { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } } [التوبة: 36]. وقيل: نَسَخها غَزْوُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثَقِيفاً في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أَوْطَاس في الشهر الحرام. وقيل: نَسَخها بيعة الرِّضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم. وذكر البيهقيّ عن عُروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرميّ: فأنزل الله عز وجل { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } الآية، قال: فحدّثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلّون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدّهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذّبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله وصدّهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعُمْرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سُكّانه من المسلمين، وفتنتهم إيّاهم عن الدِّين؛ فبلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَقَل ٱبنَ الحَضَرْميّ وحرم الشهر الحرام كما كان يحرّمه، حتى أنزل الله عز وجل: { { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة: 1]. وكان عطاء يقول: الآية مُحْكَمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحُرُم، ويحلف على ذلك؛ لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق. وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى.

الثالثة ـ قوله تعالى: { قِتَالٍ فِيهِ } «قتال» بدل عند سيبويه بدل ٱشتمال، لأن السؤال ٱشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تَعجُّباً من هتك حُرْمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه. قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وقال القُتَبيّ: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر؛ وأنشد سيبويه:

فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلْكَ واحدٍولكنه بُنيانُ قومٍ تَهدَّمَا

وقرأ عكرمة «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قَتْلٍ فيه قُلْ قتلٌ» بغير ألف فيهما. وقيل: المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه؛ وهكذا قرأ ٱبن مسعود؛ فيكون مخفوضاً بعن على التّكرير، قاله الكسائيّ. وقال الفرّاء: هو مخفوض على نية عن. وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. قال النحاس: لا يجوز أن يُعربَ الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما الجوار غلط؛ وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ؛ والدليل على أنه غلط قول العرب في التّثنية: هذان: حجرا ضَبّ خَرِبان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء، ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها. قال ٱبن عطية: وقال أبو عبيدة: هو خفض على الجوار؛ وقوله هذا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز إضمار عن؛ والقول فيه أنه بدل. وقرأ الأعرج «يَسْأَلُونكَ عَنِ الشَّهْرِ الحرام قتالٌ فيه» بالرفع. قال النحاس: وهو غامض في العربية، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه؟ فقوله: «يسألونك» يدل على الاستفهام؛ كما قال ٱمرؤ القيس:

أَصاحِ تَرى بَرْقاً أُرِيكَ وَمِيضَهكَلَمْعِ اليدَيْن في حَبيٍّ مُكَلَّلِ

والمعنى: أترى برقاً، فحذف ألف الاستفهام؛ لأن الألف التي في «أصاح» تدل عليها وإن كانت حرف نداء؛ كما قال الشاعر:

تَـرُوحُ مِـن الحَـيّ أم تَبْتَكِـر

والمعنى: أتروح؛ فحذف الألف لأن أم تدل عليها.

الرابعة ـ قوله تعالى: { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ٱبتداء وخبر، أي مستنكر؛ لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتاً يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين. والشهر في الآية ٱسم جنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواماً تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دماً، ولا تُغير في الأشهر الحُرُم، وهي رجب وذو القَعدة وذو الحجة والمحرّم؛ ثلاثة سَرْد وواحد فَرْد. وسيأتي لهذا مزيد بيان في «المائدة» إن شاء الله تعالى.

الخامسة ـ قوله تعالى: { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } ٱبتداء { وَكُفْرٌ بِهِ } عطف على «صدّ» { وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } عطف على سبِيلِ اللَّهِ { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } عطف على صدّ، وخبر الابتداء { أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ } أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام؛ قاله المَبرّد وغيره. وهو الصحيح، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها. «وكُفْرٌ بِهِ» أي بالله، وقيل: «وكُفْرٌ بِهِ» أي بالحج والمسجد الحرام. «وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ» أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام. وقال الفرّاء: «صدّ» عطف على «كبير». «والمسجد» عطف على الهاء في «به»؛ فيكون الكلام نسقاً متصلاً غير منقطع. قال ٱبن عطية: وذلك خطأ؛ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: «وكفر به» أي بالله عطف أيضاً على «كبير»، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بيَّن فساده. ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهلَ المسجد منه؛ كما فعلتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جُرْماً عند الله. وقال عبد الله بن جَحش رضي الله عنه:

تَعُدُّون قَتْلاً في الحرام عظيمةًوأعظمُ منه لو يَرَى الرُّشدَ راشِدُ
صُدُودكُمُ عما يقول مُحمّدٌوكُفرٌ به واللَّهُ راءٍ وشاهدُ
وإخراجكم من مسجد اللَّه أهلَهلئلا يُرى للَّه في البيت ساجدُ
فإنّا وإنْ عيّرتمونا بقَتْلهوأرجفَ بالإسلام باغ وحاسدُ
سَقْيَنا من ٱبنِ الحَضَرْميّ رماحنابنَخْلَةَ لمّا أوْقَد الحَربَ واقدُ
دَماً وٱبنُ عبد الله عثمان بيننايُنازعه غُلٌّ من القِدِّ عانِدُ

وقال الزهريّ ومجاهد وغيرهما: قوله تعالى: «قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» منسوخ بقوله: { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } } [التوبة: 36] وبقوله: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 5]. وقال عطاء: لم ينسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم؛ وقد تقدّم.

السادسة ـ قوله تعالى: { وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ } قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر، أي كفركم أكبر من قتلنا أُولئك. وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراماً من قتلكم في الشهر الحرام.

السابعة ـ قوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ } ٱبتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شرّ الكفرة. قال مجاهد: يعني كفار قريش. و «يردوكم» نصب بحتى، لأنها غاية مجرّدة.

الثامنة ـ قوله تعالى: { وَمَن يَرْتَدِدْ } أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر { فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ } أي بطلت وفسدت؛ ومنه الحبَطَ وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأَ فتنتفخ أجوافها، وربمّا تموت من ذلك؛ فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام.

التاسعة ـ وٱختلف العلماء في المرتدّ هل يستتاب أم لا؟ وهل يحبط عمله بنفس الردّة أم لا، إلا على الموافاة على الكفر؟ وهل يورث أم لا؟ فهذه ثلاث مسائل:

الأُولى ـ قالت طائفة: يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل؛ وقال بعضهم: ساعة واحدة. وقال آخرون: يستتاب شهراً. وقال آخرون: يستتاب ثلاثاً، على ما رُوي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك رواه عنه ٱبن القاسم. وقال الحسن: يستتاب مائة مرة، وقد رُوي عنه أنه يقتل دون ٱستتابة، وبه قال الشافعيّ في أحد قوليه، وهو أحد قولي طاوس وعُبيد بن عُمير. وذكر سُحْنون أن عبد العزيز بن أبي سَلَمة الماجِشُون كان يقول: يقتل المرتد ولا يستتاب؛ وٱحتج بحديث معاذ وأبي موسى، وفيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذَ بن جبل فلما قدِم عليه قال: ٱنزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده مُوثَق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهودياً فأسلم ثم راجع دينه دين السّوء فتهوّد. قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاءُ الله ورسوله؛ فقال: ٱجلس. قال: (نعم) لا أجلس حتى يُقتل، قضاءُ الله ورسولِه ـ ثلاث مرات ـ فأمَر به فقُتل؛ خرجّه مسلم وغيره. وذكر أبو يوسف عن أبي حنيفة أن المرتدّ يُعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قُتل مكانه، إلا أن يطلب أن يُؤجَّل، فإن طلب ذلك أُجِّل ثلاثة أيام؛ والمشهور عنه وعن أصحابه أن المرتدّ لا يقتل حتى يستتاب. والزنديق عندهم والمرتدّ سواء. وقال مالك: وتقتل الزنادقة ولا يستتابون. وقد مضى هذا أوّل «البقرة». وٱختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر؛ فقال مالك وجمهور الفقهاء: لا يُتعرّض له؛ لأنه ٱنتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقرّ عليه. وحكى ٱبن عبد الحكم عن الشافعيّ أنه يقتل؛ لقوله عليه السلام: "من بدّل دينه فٱقتلوه" ولم يخص مسلماً من كافر. وقال مالك: معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر، وأمّا من خرج من كفر إلى كفر فلم يُعن بهذا الحديث؛ وهو قول جماعة من الفقهاء. والمشهور عن الشافعي ما ذكره المُزَنِيّ والربيع أن المبدِّل لدينه من أهل الذِّمة يُلحقه الإمام بأرض الحرب ويُخرجه من بلده ويستحلّ ماله مع أموال الحربيّين إن غلب على الدار؛ لأنه إنما جَعل له الذِّمة على الدِّين الذي كان عليه في حين عقد العهد. وٱختلفوا في المرتدّة؛ فقال مالك والأُوزاعيّ والشافعيّ والليث بن سعد: تُقتل كما يُقتل المرتدّ سواء؛ وحجتهم ظاهر الحديث: "من بدّل دينه فٱقتلوه" . و «مَن» يصلح للذّكرَ والأُنثى. وقال الثوريّ وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدّة؛ وهو قول ٱبن شُبْرُمة، وإليه ذهب ٱبن عُلَيَّة، وهو قول عطاء والحسن. وٱحتجوا بأن ٱبن عباس روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من بدّل دينه فٱقتلوه" ثم إن ٱبن عباس لم يَقتل المرتدّة، ومن روى حديثاً كان أعلم بتأويله؛ ورُوي عن عليّ مثله. ونَهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. وٱحتج الأوّلون بقوله عليه السلام: "لا يحل دم ٱمرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان" فعمّ كل من كفر بعد إيمانه؛ وهو أصح.

العاشرة ـ قال الشافعيّ: إن من ٱرتدّ ثم عاد إلى الإسلام لم يَحبط عمله ولا حَجَّه الذي فرغ منه؛ بل إن مات على الردّة فحينئذ تَحبط أعماله. وقال مالك: تحبط بنفس الردّة؛ ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ٱرتدّ ثم أسلم؛ فقال مالك: يلزمه الحج، لأن الأوّل قد حبط بالردّة. وقال الشافعيّ: لا إعادة عليه، لأن عمله باق. وٱستظهر علماؤنا بقوله تعالى: { { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65]. قالوا: وهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أُمته؛ لأنه عليه السلام يستحيل منه الردّة شرعاً. وقال أصحاب الشافعيّ: بل هو خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأُمة، وبيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله؛ فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته؛ كما قال: { { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [الأحزاب: 30] وذلك لشرف منزلتهنّ؛ وإلا فلا يتصوّر إتيان منهنّ صيانة لزوجهنّ المُكَرّم المُعَظَّم؛ ٱبن العربي. وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطاً هٰهنا لأنه علّق عليها الخلود في النار جزاء؛ فمن وافَى على الكفر خلّده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حَبط عمله بالآية الأُخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين. وما خوطب به عليه السلام فهو لأُمته حتى يثبت ٱختصاصه، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهنّ ليُبيِّن أنه لو تُصوّر لكان هَتْكان أحدهما لحُرْمة الدِّين، والثاني لحرمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكلِّ هَتْكِ حُرْمَةٍ عقابٌ؛ وينزّل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات. والله أعلم.

الحادية عشرة ـ وهي ٱختلاف العلماء في ميراث المرتدّ؛ فقال عليّ بن أبي طالب والحسن والشَّعبيّ والحَكَم واللَّيث وأبو حنيفة وإسحاق بن رَاهْوَيْه: ميراث المرتدّ لورثته من المسلمين. وقال مالك وربيعة وٱبن أبي لَيْلَى والشافعيّ وأبو ثور: ميراثه في بيت المال. وقال ابن شُبْرُمَة وأبو يوسف ومحمد والأُوزاعيّ في إحدى الروايتين: ما ٱكتسبه المرتدّ بعد الردّة فهو لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة: ما ٱكتسبه المرتدّ في حال الردّة فهو فَيْءٌ، وما كان مكتَسباً في حالة الإسلام ثم ٱرتدّ يرثه ورثته المسلمون؛ وأما ٱبن شُبْرُمَةَ وأبو يوسف ومحمد فلا يُفصِّلون بين الأمرين؛ ومطلق قوله عليه السلام: "لا وِراثة بين أهل مُلَّتين" يدل على بطلان قولهم. وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه، سوى عمر بن عبد العزيز فإنه قال: يرثونه.

الثانية عشرة ـ قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ } الآية. قال جُندُب ابن عبد الله وعُروة بن الزّبير وغيرهما: لمّا قَتَل واقدُ بن عبد الله التميميّ عمرو بن الحضرميّ في الشهر الحرام تَوقَّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خُمُسه الذي وُفِّق في فرضه له عبدُ الله ابن جحش وفي الأسيرين، فعنّف المسلمون عبدَ الله بن جحش وأصحابه حتى شَقَّ ذلك عليهم، فتلافاهم الله عزّ وجلّ بهذه الآية في الشهر الحرام وفرّج عنهم، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا، فالإشارة إليهم في قوله: «إِن الَّذِينَ آمَنُوا» ثم هي باقية في كلّ من فعل ما ذكره الله عز وجل. وقيل: إن لم يكونوا أصابوا وِزْراً فليس لهم أجر؛ فأنزل الله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ } إلى آخر الآية.

والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقصدُ ترك الأوّل إيثاراً للثاني. والهَجْر ضدّ الوصل. وقد هَجره هَجْراً وهِجراناً، والاسم الهِجْرة. والمهاجرة من أرض إلى أرض تركُ الأُولى للثانية. والتَّهاجُر التّقاطع. ومن قال: المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم؛ بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله. «وجاهد» مفاعلة مِن جَهَد إذا ٱستخرج الجهد، مجاهدة وجِهاداً. والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود. والجَهاد (بالفتح): الأرض الصُّلبة. «ويرجون» معناه يطمعون ويستقربون. وإنما قال «يرجون» وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغ، لأمرين: أحدهما ـ لا يدري بما يُختم له. والثاني ـ لئلا يتّكل على عمله؛ والرجاء يَنْعَمُّ، والرجاء أبدا معه خوف ولا بُدّ، كما أن الخوف معه رجاء. والرجاء من الأمل ممدود؛ يقال: رَجَوت فلاناً رَجْوا ورَجَاء ورَجَاوة، يقال: ما أتيتك إلا رَجَاوَةَ الخير. وترجّيته وٱرْتَجيته ورَجّيته وكله بمعنَى رَجَوته، قال بِشرٌ يخاطب بنته:

فَرَجِّي الخيرَ وٱنتظرِي إيابيإذا ما القارِظُ العَنَزِيُّ آبَا

ومالي في فلان رِجيَّة، أي ما أرجو. وقد يكون الرَّجْو والرجاء بمعنى الخوف، قال الله تعالى: { { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [نوح: 13] أي لا تخافون عظمةَ الله؛ قال أبو ذُؤَيب:

إذا لسعته النّحلُ لم يَرْجُ لَسْعَهاوخالفَهَا في بَيت نُوبٍ عوامِلِ

أي لم يَخَفْ ولم يُبالِ. والرجا ـ مقصور ـ: ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحيةٍ رَجاً. والعَوَام من الناس يخطئون في قولهم: يا عظيمَ الرّجَا؛ فيَقْصُرون ولا يمدّون.