التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالىٰ: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }.

فيه تسع مسائل:

الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { يَسْأَلُونَكَ } السائلون هم المؤمنون؛ كما تقدّم. والخمر مأخوذة من خَمَر إذا ستر؛ ومنه خمار المرأة. وكلُّ شيء غطَّى شيئاً فقد خَمَره؛ ومنه "خَمِّروا آنِيَتَكُم" فٱلخمر تَخْمُر العقَل، أي تُغطّيه وتستره؛ ومن ذلك الشجر الملتف يُقال له: الخَمَر (بفتح الميم) لأنه يغطِّي ما تحته ويستره؛ يُقال منه: أَخْمَرتِ الأرْضُ كثُر خَمَرُها؛ قال الشاعر:

ألاَ يَا زيدُ والضّحاكَ سِيرَافقد جاوزتما خَمَر الطَّريقِ

أي سيرَا مُدِلّين فقد جاوزتما الوَهْدة التي يستتر بها الذّئبُ وغيرُه. وقال العَجّاج يصف جيشاً يمشي برايات وجيوش غير مُستخْفٍ:

في لامع العِقْبان لا يمشِي الخَمَرْيُوجِّه الأرضَ ويَسْتاقُ الشَّجَرْ

ومنه قولهم: دخل في غُّمار الناس وخُّمارهم؛ أي هو في مكان خاف. فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطّيه سُمْيت بذلك. وقيل: إنما سميت الخمر خمراً لأنها تُركت حتى أدركت؛ كما يُقال: قد ٱختمر العجين، أي بلغ إدراكه. وخُمِر الرأي، أي تُرك حتى يتبيّن فيه الوجه. وقيل: إنما سُمِّيت الخمر خمراً لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهي المخالطة؛ ومنه قولهم: دخلت في خُّمار الناس، أي ٱختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة؛ فالخمر تُركت وخُمِرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته؛ والأصل الستر.

والخمر: ماء العنب الذي غَلَىٰ أو طُبخ؛ وما خامر العقل من غيره فهو في حُكمه، لأن إجماع العلماء أن القِمار كله حرام. وإنما ذُكر المَيْسِر من بينه فجُعل كلّه قياساً على الميسر؛ والميسر إنما كان قمِاراً في الجُزُر خاصّة؛ فكذلك كلّ ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.

الثانية ـ والجمهور من الأُمّة على أنّ ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرّم قليله وكثيره، والحدّ في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة والثوريّ وٱبن أبي لَيْلَىٰ وٱبن شُبْرُمَةَ وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سَكِر منه أحد دون أن يتعمّد الوصولَ إلى حدّ السُّكر فلا حدّ عليه؛ وهذا ضعيف يردّه النظر والخبر، على ما يأتي بيانه في «المائدة والنحل» إن شاء الله تعالىٰ.

الثالثة ـ قال بعض المفسرين: إنّ الله تعالىٰ لم يَدَعْ شيئاً من الكرامة والبِرِّ إلاَّ أعطاه هذه الأُمة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائعَ دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرّة بعد مرّة؛ فكذلك تحريم الخمر. وهذه الآية أوّل ما نزل في أمر الخمر، ثم بعده: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } } [النساء: 43] ثم قوله: { { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } } [المائدة: 91] ثم قوله: { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ } [المائدة؛ 90] على ما يأتي بيانه في «المائدة».

الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { وَٱلْمَيْسِرِ } الميسر: قِمار العرب بالأَزلام. قال ٱبن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجلَ على أهله وماله فأيّهما قَمَر صاحبَه ذهب بماله وأهله؛ فنزلت الآية. وقال مجاهد ومحمد بن سِيرِين والحسن وٱبن المسيّب وعطاء وقَتادة ومعاوية بن صالح وطاوس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وٱبن عباس أيضاً: كل شيء فيه قمار من نَرْد وَشِطْرَنْج فهو المَيْسِر، حتى لعب الصِّبيان بالجَوْز والكِعَاب؛ إلاَّ ما أبيح من الرِّهان في الخيل والقُرْعة في إفراز الحقوق؛ على ما يأتي. وقال مالك: الْمَيْسِر مَيْسِران: مَيْسِر اللهو، وميسر القِمار؛ فمن مَيْسر اللّهوِ النَّرْد والشَّطْرنج والملاهي كلها. وميسر القمار. ما يتخاطر الناس عليه. قال علي بن أبي طالب: الشَّطْرنج مَيْسر العجم. وكلّ ما قوِمر به فهو مَيسر عند مالك وغيره من العلماء. وسيأتي في «يونس» زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالىٰ.

والميسر مأخوذ من اليَسَر، وهو وجوب الشيء لصاحبه؛ يُقال: يَسَر لي كذا إذا وجب فهو يَيْسِر يَسراً ومَيْسراً. والياسر: اللاعب بالقِداح، وقد يَسَر يَيْسِر؛ قال الشاعر:

فأعِنهُمُ وَٱيْسِرْ بما يَسَرُوا بهوإذا هُمُ نَزلُوا بضَنْكٍ فَأَنْزِلِ

وقال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه؛ سُمِّي ميسراً لأنه يُجَزَّأ أجزاء؛ فكأنه موضع التجزئة، وكُّل شيء جَزَّأته فقد يَسَرته. والياسِر: الجازر؛ لأنه يُجزّىء لحم الجَزُور. قال: وهذا الأصل في الياسر؛ ثم يُقال للضاربين بالقِداح والمتقامِرين على الجزور: ياسِرون؛ لأنهم جازرون إذ كانوا سبباً لذلك. وفي الصِّحاح: ويَسَر القومُ الجزورَ أي ٱجتزروها وٱقتسموا أعضاءها. قال سُحَيم بن وَثِيل اليربوعيّ:

أقولُ لهم بالشِّعب إذ يَيْسِرُوننيألم تَيْأسُوا أني ٱبنُ فَارِسِ زَهْدَمِ

كان قد وقع عليه سِباء فضُرب عليه بالسهام. ويُقال: يَسَر القومُ إذا قامروا. ورجل يَسَرٌ ويَاسِرٌ بمعنىً. والجمع أيسار؛ قال النابغة:

أني أُتَمِّم أَيْسارِي وأَمنحُهممَثْنَى الأيادِي وأَكْسُوا الجَفْنَةَ الأدَمَا

وقـال طَرفَــة:

وهمُ أَيْسارُ لقمانَ إذاأَغْلَتِ الشَّتْوَةُ أَبْدَاءَ الجُزُرْ

وكان من تطوّع بنحرها ممدوحاً عندهم؛ قال الشاعر:

وناجية نحرتُ لقومِ صدقٍوما ناديتُ أيْسارَ الجَزورِ

الخامسة ـ رَوىٰ مالك في الموطّأ عن داود بن حُصين أنه سمع سعيد بن المسيّب يقول: كان مِن مَيْسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين؛ وهذا محمول عند مالك وجمهور أصحابه في الجنس الواحد، حيوانه بلحمه؛ وهو عنده من باب المُزَابنة والغَرَر والقِمار، لأنه لا يُدْرَى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلاً؛ فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المُغيَّب في جلده إذا كانا من جنس واحد، والجنس الواحد عنده الإبل والبقر والغنم والظِّباء والوُعُول وسائر الوحوش، وذوات الأربع المأكولات كلها عنده جنس واحد، لا يجوز بيع شيء من حيوان هذا الصنف والجنس كله بشيء واحد من لحمه بوجه من الوجوه؛ لأنه عنده من باب المُزَابنة، كبيع الزبيب بالعنب والزيتون بالزيت والشِّيرَج بالسَّمسم، ونحو ذلك. والطير عنده كله جنس واحد، وكذلك الحيتان من سمك وغيره. ورُوي عنه أن الجراد وحده صِنف. وقال الشافعي وأصحابه واللّيث بن سعد: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان على حال من الأحوال من جنس واحد كان أم من جنسين مختلفين؛ على عموم الحديث. ورُوي عن ٱبن عباس أن جزوراً نُحرت على عهد أبي بكر الصِّدِّيق فقُسمت على عشرة أجزاء؛ فقال رجل: أعطوني جزءاً منها بشاةٍ، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. قال الشافعيّ: ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفاً من الصحابة. قال أبو عمر: قد رُوي عن ٱبن عباس أنه أجاز بيع الشاة باللحم؛ وليس بالقويّ. وذكر عبد الرزاق عن الثوريّ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب أنه كَرِه أن يُباع حيّ بميت؛ يعني الشاة المذبوحة بالقائمة. قال سفيان: ونحن لا نرى به بأساً. قال المُزنيّ: إن لم يصح الحديث في بيع الحيوان باللحم فالقياس أنه جائز، وإن صح بطل القياس وٱتُّبع الأثر. قال أبو عمر: وللكوفيين في أنه جائز بيع اللحم بالحيوان حجج كثيرة من جهة القياس والاعتبار؛ إلاَّ أنه إذا صح الأثر بطل القياس والنظر. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيّب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو عمر؛ ولا أعلمه يتصل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت، وأحسن أسانيدِه مرسَلُ سعيدِ بن المسيّب على ما ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب الشافعيّ؛ وأصله أنه لا يقبل المراسيل إلاَّ أنه زعم أنه ٱفتقد مراسيل سعيد فوجدها أو أكثرها صحاحاً. فكَرِه بيع أنواع الحيوان بأنواع اللحوم على ظاهر الحديث وعمومه؛ لأنه لم يأت أثر يَخُصّه ولا إجماع. ولا يجوز عنده أن يُخَص النّصُّ بالقياس. والحيوان عنده ٱسم لكل ما يعيش في البرّ والماء وإن ٱختلفت أجناسه؛ كالطعام الذي هو ٱسم لكل مأكول أو مشروب؛ فٱعلم.

السادسة ـ قوله تعالىٰ: { قُلْ فِيهِمَآ } يعني الخمر والميسر { إِثْمٌ كَبِيرٌ } إثمُ الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفُحش والزُّور، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه، وتعطيل الصلوات والتعوّق عن ذكر الله، إلى غير ذلك. رَوى النَّسائيّ عن عثمان رضي الله عنه قال: ٱجتنبوا الخمر فإنها أُمُّ الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تَعبَّد فعِلقته امرأة غَويّة، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة؛ فٱنطلق مع جاريتها فطفِقت كلّما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى ٱمرأة وَضِيئة عندها غلام وبَاطِيَةُ خمر؛ فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام. قال: فٱسقيني من هذه الخمر كأساً؛ فسقته كأساً. قال: زيدوني؛ فلم يَرِم حتى وقع عليها، وقتل النفس؛ فٱجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر؛ إلاَّ ليوشك أن يُخرج أحدُهما صاحبه؛ وذكره أبو عمر في الاستيعاب. ورُوي أن الأعشىٰ لما توجه إلى المدينة ليُسلم فلقيَه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصَّلاة؛ فقال: إنّ خدمة الربّ واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: اصطناع المعروف واجب. فقيل له: إنه ينهى عن الزنى. فقال: هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخاً فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه! فرجع، وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه؛ فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فٱنكسرت عنقه فمات. وكان قيس بن عاصم المِنْقريّ شَرَّاباً لها في الجاهلية ثم حرّمها على نفسه؛ وكان سبب ذلك أنه غمز عُكْنَة ابنته وهو سكران، وسبّ أبويه، ورأى القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمّار كثيراً من ماله؛ فلما أفاق أخبر بذلك فحرّمها على نفسه؛ وفيها يقول:

رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيهاخصالٌ تُفِسد الرجلَ الحليما
فلا واللَّه أشربُها صحيحاًولا أشفَى بها أبداً سقيما
ولا أعطي بها ثمناً حياتيولا أدعو لها أبداً نديما
فإنّ الخمر تفضح شاربيهاوتجنيهم بها الأمر العظيما

قال أبو عمر: وروى ٱبن الأعرابيّ عن المفضَّل الضِّبيّ أن هذه الأبيات لأبي مِحْجن الثَّقفيّ قالها في تركه الخمر، وهو القائل رضي الله عنه:

إذا مُتُّ فٱدِفنّي إلى جَنْب كَرْمةٍتروّي عظامِي بعد موتي عُروقُها
ولا تَدْفِنَنِّي بالفَلاَة فإنّنيأخاف إذا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقُها

وجلده عمر الحدّ عليها مراراً، ونفاه إلى جزيرة في البحر؛ فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه؛ وكان أحد الشجعان البُهَم؛ فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حلّ قيوده وقال: لا نجلدك على الخمر أبداً. قال أبو مِحْجن: وأنا والله لا أشربها أبداً؛ فلم يشربها بعد ذلك. وفي رواية: قد كنت أشربها إذ يقام عليّ الحدّ (وأطهر منها)، وأما إذ بَهْرَجْتَنِي فوالله لا أشربها أبداً. وذكر الهيثم بن عدِيّ أنه أخبره من رأى قبر أبي مِحجن بأذرَبيجان، أو قال: في نواحي جُرْجان، وقد نبتت عليه ثلاث أُصول كَرْم وقد طالت وأثمرت، وهي معروشة على قبره؛ ومكتوب على القبر «هذا قبر أبي مِحجن» قال: فجعلت أتعجب وأذكر قوله:

إذا مُـتُّ فٱدفِنِّـي إلـى جَنْـب كَرْمـةٍ

ثم إن الشارب يصير ضُحْكَة للعقلاء، فيلعب ببوله وعَذِرَته، وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللَّهُمَّ ٱجعلني من التوّابين وٱجعلني من المتطهرين ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله.

وأما القِمار فيورث العداوة والبغضاء؛ لأنه أكل مال الغير بٱلباطل.

السابعة ـ قوله تعالىٰ: { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أما في الخمر فربح التجارة؛ فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح؛ وكانوا لا يرون المماكسة فيها؛ فيشتري طالب الخمرِ الخمَر بالثمن الغالي. هذا أصح ما قيل في منفعتها، وقد قيل في منافعها: إنها تهضم الطعام، وتقوّي الضعف، وتعين على الباه، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان، وتصفي اللونَ، إلى غير ذلك من اللذة بها. وقد قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه:

ونَشربُها فتتركُنا ملوكاًوَأُسْداً ما يُنَهْنهنا اللقاءُ

إلى غير ذلك من أفراحها. وقال آخر:

فإذا شَرِبتُ فإننيرَبُّ الخَوَرْنَقِ والسَّدِير
وإذا صَحوْتُ فإننيربُّ الشُّوَيهةِ والبَعِيرِ

ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كدّ ولا تعب؛ فكانوا يشترون الجزور ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أَخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخراً كان عليه ثمن الجزور كله ولا يكون له من اللحم شيء، وقيل: منفعته التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور وكان يفرّقه في المحتاجين.

وسهام الميسر أحد عشر سهماً؛ منها سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدد الحظوظ، وهي: «الفذّ» وفيه علامة واحدة وله نصيب وعليه نصيب إن خاب. الثاني ـ «التَّوْأَم» وفيه علامتان وله وعليه نصيبان. الثالث ـ «الرّقِيب» وفيه ثلاث علامات على ما ذكرنا. الرابع ـ «الحِلْس» وله أربع. الخامس ـ «النافِز» والنافِس أيضاً وله خمس. السادس ـ «المُسْبِل» وله ست. السابع ـ «المُعَلَّى» وله سبع. فذلك ثمانية وعشرون فرضاً، وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعيّ. وبقي من السهام أربعة، وهي الأغفال لا فروض لها ولا أنصباء، وهي: «المُصَدَّر» و «المُضَعَّف» و «المَنِيح» و «السَّفِيح». وقيل: الباقية الأغفال الثلاثة: «السّفيح» و «المَنيح» و «الوَغْد» تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام على الذي يُجيلها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً. ويسمى المجيلُ المفيض والضاربَ والضرِيبَ والجمع الضُّرَباء. وقيل: يُجعل خلفه رقيب لئلا يحابي أحداً، ثم يجثو الضريب على ركبتيه، ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويدخل يده في الرِّبابة فيخرج. وكانت عادة العرب أن تضرب الجزور بهذه السهام في الشَّتوة وضيق الوقت وكَلَب البَرْد على الفقراء؛ يُشتَرى الجَزورُ ويضمن الأيسار ثمنها ويرضى صاحبها من حقه؛ وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك منهم، ويسمّونه «البَرَمَ» قال متمِّم بن نُويرة:

ولا بَرَماً تُهدِى النساءُ لِعرْسهإذا القَشْعُ مِن بَرْدِ الشتاءِ تَقَعْقعا

ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام. قال ٱبن عطية: وأخطأ الأصمعيّ في قسمة الجزور، فذكر أنها على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرون قسماً، وليس كذلك؛ ثم يضرب على العشرة فمن فاز سهمه بأن يخرج من الرِّبابة متقدّماً أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء. والرِّبابة (بكسر الراء): شبيهة بالكنانة تُجمع فيها سهام الميسر؛ وربما سَمَّوْا جميع السهام ربابة؛ قال أبو ذؤيب يصف الحِمار وأتُنَه:

وكأنهن رِبابة وكأنه يَسَرٌ يُفيض على القِداح ويَصْدَعُ

والرِّبابة أيضاً: العهد والميثاق؛ قال الشاعر:

وكنتُ ٱمْرَأً أَفضتْ إليكَ رِبَابَتِيوَقَبْلكَ رَبَّتنِي فضِعتُ رُبُوبُ

وفي أحْيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه؛ كما تقدّم. ويعيش بهذه السّيرة فقراء الحيّ؛ ومنه قول الأعشىٰ:

المطعِمو ٱلضيف إذا ما شتَوْا وٱلجاعِلو القوتِ على الياسِرِ

ومنه قول الآخر:

بأيديهمُ مَقُرومةٌ وَمَغَالِقيعودُ بأرزاق العُفاة مَنِيحُها

و «المنيح» في هذا البيت المستمنَح؛ لأنهم كانوا يستعيرون السّهم الذي قد ٱمْلس وكثر فوزه، فذلك المنيح الممدوح، وأما المنيح الذي هو أحد الأغفال فذلك إنما يوصف بالكرّ، وإياه أراد الأخطل بقوله:

ولقد عَطَفْنَ على فَزارةَ عَطْفةًكَرَّ المَنِيحِ وَجُلْنَ ثَمَّ مَجالاَ

وفي الصحاح: «والمَنِيح سهم من سهام الميسر ممالا نصيب له إلاَّ أن يُمنحَ صاحبُه شيئاً». ومن الميسر قولُ لَبيد:

إذا يَسَروا لم يُورِث اليُسْرُ بينهمْفواحشَ يُنعَى ذِكُرها بالمَصايِفِ

فهذا كله نفع الميسر، إلاَّ أنه أكل المال بالباطل.

الثامنة ـ قوله تعالىٰ: { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أعلم الله جلّ وعزّ أن الإثم أكبر من النّفع، وأعْود بالضرر في الآخرة؛ فٱلإثم الكبير بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم. وقرأ حمزة والكسائيّ «كثير» بالثاء المثلثة؛ وحجتهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعَها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورةَ له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولةَ له وآكلَ ثمنها. وأيضاً فَجمْعُ المنافع يحسن معه جمع الآثامِ. و «كثير» بالثاء المثلثة يعطي ذلك. وقرأ باقي القُرّاء وجمهورُ الناس «كبير» بالباء الموحدة، وحجتهم أن الذنب في القِمار وشرب الخمر من الكبائر؛ فوصفه بالكبير أليق. وأيضاً فآتفاقهم على «أكبر» حجة لـ «ـكبير» بالباء بواحدة. وأجمعوا على رفض «أكثر» بالثاء المثلثة، إلاَّ في مصحف عبد الله ٱبن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير» «وإثمهما أكثر» بالثاء مثلثّة في الحرفين.

التاسعة ـ قال قوم من أهل النظر: حُرِّمت الخمر بهذه الآية؛ لأن الله تعالىٰ قد قال: { { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ } [الأعراف: 33] فأخبر في هذه الآية أن فيها إثماً فهو حرام. قال ٱبن عطية: ليس هذا النظر بجيّد، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر.

قلت: وقال بعضهم: في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سمّاه إثماً، وقد حرّم الإثم في آية أُخرىٰ، وهو قوله عزّ وجل: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ } } [الأعراف: 33] وقال بعضهم: الإثم أراد به الخمر؛ بدليل قول الشاعر:

شَرِبتُ الإثم حتى ضَلَّ عَقْلِيكذاكَ الإثمُ يَذْهبُ بالعقول

قلت: وهذا أيضاً ليس بجيّد، لأن الله تعالىٰ لم يُسمّ الخمر إثماً في هذه الآية، وإنما قال: { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } ولم يقل: قل هما إثم كبير. وأما آية «الأعراف» وبيتُ الشعر فيأتي الكلام فيهما هناك مبيَّناً، إن شاء الله تعالىٰ. وقد قال قَتادة: إنما في هذه الآية ذَمُّ الخمر، فأما التحريم فيُعلم بآية أُخرىٰ وهي آية «المائدة» وعلى هذا أكثر المفسرين.

قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ }

فيه ثلاث مسائل:

الأُولى ـ قوله تعالى: { قُلِ ٱلْعَفْوَ } قراءة الجمهور بالنصب. وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع. وٱختُلف فيه عن ٱبن كَثير. وبالرفع قراءة الحسنِ وقتادة وابن أبي إسحاق. قال النحاس وغيره: إن جعلت «ذا» بمعنى الذي كان الاختيار الرفع، على معنى: الذي ينفقون هو العفو؛ وجاز النصب. وإن جعلت «ما» و «ذا» شيئاً واحداً كان الاختيار النصب، على معنى: قل ينفقون العفو؛ وجاز الرفع. وحكى النحويون: ماذا تعلّمت: أنحواً أم شعراً؟ بالنصب والرفع، على أنهما جيدان حسنان؛ إلا أن التفسير في الآية على النصب.

الثانية ـ قال العلماء: لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } سؤالاً عن النفقة إلى مَن تُصرف؛ كما بيناه ودل عليه الجواب، والجواب خرج على وَفْق السؤال؛ كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق؛ وهو في شأن عمرو بن الجموح ـ كما تقدّم ـ فإنه لما نزل { { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } [البقرة: 215] قال: كم أُنفق؟ فنزل «قل العفو» والعفوُ: ما سهُل وتيسّر وفَضَل، ولم يَشقَّ على القلب إخراجه؛ ومنه قول الشاعر:

خُذِي العفوَ منّى تستديمي مودّتيولا تَنطِقي في سَوْرَتي حين أغضبُ

فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تُؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة؛ هذا أوْلى ما قيل في تأويل الآية، وهو معنى قول الحسنِ وقتادةَ وعطاءٍ والسُّدّي والقُرظيِّ محمدِ بنِ كعب وٱبنِ أبي ليلى وغيرهم، قالوا: العفو ما فَضَل عن العيال؛ ونحوه عن ٱبن عباس. وقال مجاهد: صدقةٌ عن ظَهْرِ غنًى، وكذا قال عليه السلام: "خير الصدقة ما أنْفقتَ عن غِنًى" وفي حديث آخر: "خير الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غِنًى" . وقال قيس بن سعد: هذه الزكاة المفروضة. وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوّع. وقيل: هي منسوخة. وقال الكلبيّ: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضَرْع نظر إلى ما يكفيه وعيالَه لنفقة سنة أمسكه وتصدّق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوماً وتصدّق بالباقي. حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكلَّ صدقة أمروا بها. وقال قوم: هي مُحْكَمة، وفي المال حقّ سوى الزكاة. والظاهر يدل على القول الأوّل.

الثالثة ـ قوله تعالى: { كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ } قال المفضّل بن سَلمَة: أي في أمر النفقة. { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العُقبَى. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي كذلك يبيّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها.