التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٢٣٤
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

.

فيه خمس وعشرون مسألة:

الأُولى ـ قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } لما ذكر عز وجل عدّة الطلاق وٱتصل بذكرها ذكر الإرضاع، ذكر عدّة الوفاة أيضاً؛ لئلا يتوهم أن عدّة الوفاة مثل عدّة الطلاق. «والَّذِينَ» أي والرجال الذين يموتون منكم. { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } أي يتركون أزواجاً، أي ولهم زوجات؛ فالزوجات { يَتَرَبَّصْنَ }؛ قال معناه الزجاج وٱختاره النحاس. وحذْفُ المبتدأ في الكلام كثيرٌ؛ كقوله تعالى: { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكُمُ ٱلنَّارُ } [الحج: 72] أي هو النار. وقال أبو عليّ الفارسي: تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم؛ وهو كقولك: السَّمْن مَنَوانِ بدرهمٍ، أي منوان منه بدرهم. وقيل: التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن؛ فجاءت العبارة في غاية الإيجاز. وحكى المهدوِيّ عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون. وقال بعض نُحَاةِ الكوفة: الخبر عن «الذين» متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهنّ يتربصْنَ؛ وهذا اللفظ معناه الخبر عن المشروعية في أحد الوجهين كما تقدّم.

الثانية ـ هذه الآية في عدّة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص. وحكى المهدوِيّ عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله { { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 4]. وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة: 240] لأن الناس أقاموا بُرهة من الإسلام إذا توفى الرجل وخلّف ٱمرأته حاملاً أوصى لها زوجها بنفقة سَنَة وبالسُّكنى ما لم تخرج فتتزوّج؛ ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وبالميراث. وقال قوم: ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول؛ كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخاً. وهذا غلط بيِّن؛ لأنه إذا كان حكمها أن تعتدّ سنةً إذا لم تخرج، فإن خرجت لم تُمنع، ثم أزيل هذا ولزمتها العدّة أربعةَ أشهر وعشراً. وهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزِيد في صلاة الحضر وأُقرّت صلاة السفر بحالها؛ وسيأتي.

الثالثة ـ عدّة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء. وروي عن علي بن أبي طالب وٱبن عباس أن تمام عدّتها آخر الأجلين؛ وٱختاره سحنون من علمائنا. وقد روي عن ٱبن عباس أنه رجع عن هذا. والحجة لما روي عن علي وٱبن عباس رَوْمُ الجمع بَيْن قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } وبَيْن قوله: { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 4] وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجليْن فقد عملت بمقتضى الآيتَيْن، وإن ٱعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدّة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح بٱتفاق أهل الأُصول. وهذا نظر حسن لولا ما يَعكّر عليه من حديث سُبَيْعَة الأسْلَميةِ وأنها نفِست بعد وفاة زوجها بليال، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوّج؛ أخرجه في الصحيح. فبين الحديث أن قوله تعالى: { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } } [الطلاق: 4] محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدّة الوفاة مختصة بالحائل من الصِّنفين؛ ويَعْتَضِد هذا بقول ٱبن مسعود: ومن شاء باهلته أن آية النِّسَاء القصرى نزلت بعد آية عدّة الوفاة. قال علماؤنا: وظاهر كلامه أنها ناسخة لها وليس ذلك مراده. والله أعلم. وإنما يعني أنها مخصّصة لها؛ فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها. وكذلك حديث سُبَيْعة متأخرٌ عن عدّة الوفاة؛ لأن قصة سبيعة كانت بعد حَجّة الوَداع، وزوجها هو سَعْد بن خَوْلَة وهو من بني عامر بن لُؤَيّ وهو ممن شهد بدراً، توفى بمكة حينئذ وهي حامل، وهو الذي رَثَى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفى بمكة، وولدت بعده بنصف شهر. وقال البخاريّ: بأربعين ليلة. وروى مسلم من حديث عمر بن عبد الله بن الأرقم أن سُبيعة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالت: فأفْتَاني بأنِّي قد حللتُ حين وضعتُ حَمْلي، وأمرني بالتزوّج إن بَدَا لي. قال ٱبن شهاب: ولا أرى بأساً أن تتزوّج حين وَضعتْ وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يَقْرُبْها حتى تطهر؛ وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وقال الحسن والشعبيّ والنخعيّ وحَمّاد: لا تنكح النفساءُ ما دامت في دَمِ نِفاسها. فٱشترطوا شرطين: وَضْعَ الحمل، والطُّهْر من دَم النفاس. والحديث حجة عليهم، ولا حجة لهم في قوله: "فلما تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِها تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّاب" كما في صحيح مسلم وأبي داود؛ لأن «تَعَلّتْ» وإن كان أصله طهرت من دم نفاسها ـ على ما قاله الخليل ـ فيحتمل أن يكون المراد به هٰهنا تَعَلّت من آلام نفاسها؛ أي ٱستَقَلّت من أوجاعها. ولو سُلِّم أن معناه ما قال الخليل فلا حجة فيه؛ وإنما الحجة في "قوله عليه السلام لسُبَيْعة: قد حللت حين وضعت" فأوقع الحِلّ في حين الوضع وعلّقه عليه، ولم يقل إذا ٱنقطع دمُكِ ولا إذا طهرتِ؛ فَصحّ ما قاله الجمهور.

الرابعة ـ ولا خلاف بين العلماء على أن أجَلَ كلِّ حامل مطلقةٍ يملك الزوج رجعتها أو لا يملك، حُرّة كانت أو أَمَة أو مُدَبَّرة أو مكاتَبَة أن تضع حملها.

وٱختلفوا في أجل الحامل المتوفى عنها كما تقدّم؛ وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلاً لو توفى وترك ٱمرأة حاملاً فٱنقضت أربعةُ أشهر وعشرٌ أنها لا تحل حتى تلد؛ فعُلِم أن المقصود الولادة.

الخامسة ـ قوله تعالى: { يَتَرَبَّصْنَ } التربص: التأنِّي والتصبُّر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألاَّ تفارقه ليلاً. ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلَّقة بقوله تعالى: { أَسْكِنُوهُنَّ } [الطلاق: 6] وليس في لفظ العدّة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحْدَاد، وإنما قال: «يَتَرَبَّصْنَ» فبيَّنَتْ السنة جميع ذلك. والأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُتَظَاهرة بأنّ التّربّص في الوفاة إنما هو بإحداد، وهو الامتناع من الزِّينَة ولبس المصبوغ الجميل والطّيّب ونحوه، وهذا قول جمهور العلماء. وقال الحسن ٱبن أبي الحسن: ليس الإحداد بشيء، إنما تتربّصُ عن الزوج، ولها أن تتَزيَّن وتَتطيّب؛ وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة على ما نبينه إن شاء الله تعالى. وثبت " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للفُرَيْعَة بنت مالك بن سِنَان وكانت متوَفًّى عنها: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فٱعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً؛ وهذا حديث ثابت أخرجه مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، رواه عنه مالك والثوريّ ووهيب بن خالد وحماد بن زيد وعيسى بن يونس وعدد كثير وٱبن عيينة والقطان وشعبة، وقد رواه مالك عن ٱبن شهاب وحسبك! قال الباجِيّ: لم يرو عنه غيره، وقد أخذ به عثمان بن عفان. قال أبو عمر: وقضى به في ٱعتداد المتوفَّى عنها في بيتها، وهو حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتدّ في بيتها ولا تخرج عنه، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر. وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتدّ في بيتها وتعتدّ حيث شاءت، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات؛ ومن حجته أن المسألة مسألة خلاف. قالوا: وهذا الحديث إنما ترويه ٱمرأة غير معروفة بحمل العلم؛ وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنصِّ كتاب الله أو سنة أو إجماع. قال أبو عمر: أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنًى عنه بالسنة؛ لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة، وبالله التوفيق. وروي عن عليّ وٱبن عباس وجابر وعائشة مثل قول داود؛ وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن البصريّ. قال ٱبن عباس: إنما قال الله تعالى: { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } ولم يقل يعتددن في بيوتهن، ولتعتدّ حيث شاءت؛ ورُوي عن أبي حنيفة. وذكر عبد الرزاق قال: حدّثنا مَعْمَر عن الزُّهريّ عن عروة قال: خرجت عائشة بأُختها أُمّ كلثوم ـ حين قُتل عنها زوجها طلحة بن عبيد الله ـ إلى مكة في عُمْرة، وكانت تُفتِي المتوفَّى عنها (زوجها) بالخروج في عدّتها. قال: وحدّثنا الثوريّ عن عبيد الله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول: أبى الناس ذلك عليها. قال: وحدّثنا معمر عن الزهريّ قال: أخذ المترخِّصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة، وأخذ أهل الوَرَع والعزْم بقول ٱبن عمر. وفي الموطأ: أن عمر بن الخطاب كان يردّ المتوفَّى عنهنّ أزواجهن من البَيْدَاء يمنعهن الحج. وهذا من عمر رضي الله عنه ٱجتهاد؛ لأنه كان يرى ٱعتداد المرأة في منزل زوجها المتوفَّى عنها لازماً لها؛ وهو مقتضى القرآن والسنة، فلا يجوز لها أن تخرج في حَجّ ولا عمرة حتى تنقضي عدّتها. وقال مالك: تردّ ما لم تحرِم.

السادسة ـ إذا كان الزوج يملك رقبة المسكن فإن للزوجة العدّة فيه؛ وعليه أكثر الفقهاء: مالك وأبو حنيفة والشافعيّ وأحمد وغيرهم لحديث الفُرَيْعة. وهل يجوز بيع الدار إذا كانت مِلكاً للمتوفَّى وأراد ذلك الورثة؛ فالذي عليه جمهور أصحابنا أن ذلك جائز، ويشترط فيه العدّة للمرأة. قال ٱبن القاسم: لأنها أحق بالسكنى من الغُرَماء. وقال محمد بن الحكم: البيع فاسد؛ لأنها قد ترتاب فتمتدّ عدّتها. وجه قولَ ٱبن القاسم: أن الغالب السّلامةُ، والريبة نادرةٌ وذلك لا يؤثر في فساد العقود؛ فإن وقع البيع فيه بهذا الشرط فٱرتابتْ، قال مالك في كتاب محمد: هي أحقّ بالمقام حتى تنقضي الرِّيبةُ، وأحبّ إلينا أن يكون للمشتري الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ولا يرجع بشيء؛ لأنه دخل على العدّة المعتادة، ولو وقع البيع بشرط زوال الريبة كان فاسداً. وقال سُحْنون: لا حجة للمشتري وإن تمادت الرِّيبةُ إلى خمس سنين؛ لأنه دخل على العدّة والعدّة قد تكون خمس سنين؛ ونحو هذا رَوى أبو زيد عن ٱبن القاسم.

السابعة ـ فإن كان للزوج السكنى دون الرّقبة، فلها السكنى في مدّة العدّة، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي؛ "لقوله عليه السلام للفُرَيْعة ـ وقد علم أن زوجها لا يملك رقبة المسكن ـ: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" . لا يقال إن المنزل كان لها، فلذلك قال لها: "ٱمكثي في بيتك" فإن مَعْمرا روى عن الزُّهريّ أنها ذكرت للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن زوجها قُتل، وأنه تركها في مسكن ليس لها وٱستأذنته؛ وذكر الحديث. ولنا من جهة المعنى أنه ترك داراً يملك سكناها ملْكاً لا تَبِعة عليه فيه؛ فلزم أن تعتدّ الزوجةُ فيه؛ أصل ذلك إذا ملَك رقبتها.

الثامنة ـ وهذا إذا كان قد أدّى الكِراء، وأما إذا كان لم يؤدّ الكراء فالذي في المدوّنة: أنه لا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسراً؛ لأن حقها إنما يتعلق بما يملكه من السكنى مِلكاً تامّاً، وما لم ينقد عوضه لم يملكه مِلكاً تاماً، وإنما ملك العِوض الذي بيده، ولا حق في ذلك للزوجة إلا بالميراث دون السكنى؛ لأن ذلك مالٌ وليس بسكنى. وروى محمد عن مالك أن الكِراء لازم للميت في ماله.

التاسعة ـ قوله صلى الله عليه وسلم للفُرَيْعة: "ٱمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" يحتمل أنه أمرها بذلك لما كان زوجها قد أدَّى كراء المسكن، أو كان أُسْكِن فيه إلى وفاته، أو أن أهل المنزل أباحوا لها العدّة فيه بكراء أو غير كراء، أو ما شاء الله تعالى من ذلك مما رأى به أن المُقام لها فيه حتى تنقضي عدّتها.

العاشرة ـ وٱختلفوا في المرأة يأتيها نَعْيُ زوجها وهي في بيت غير بيت زوجها؛ فأمرها بالرجوع إلى مسكنه وقراره مالكُ بن أنس؛ وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه). وقال سعيد بن المسيِّب والنّخعيّ: تعتدّ حيث أتاها الخبر، لا تبرح منه حتى تنقضي العدّة. قال ٱبن المنذر: قول مالك صحيح، إلا أن يكون نقلها الزوج إلى مكان فتلزم ذلك المكان.

الحادية عشرة ـ ويجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت ٱنتشار الناس بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في ذلك المنزل. وفي البخاريّ ومسلم عن أُم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُحِدّ ٱمرأةٌ على ميّت فوقَ ثلاثٍ إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبَس ثوباً مصبوغاً إلا ثوبَ عَصْبٍ، ولا تكْتَحِل، ولا تَمَسّ طِيباً إلا إذا طَهُرت نُبْذَةً من قُسْط أو أَظْفَار" . وفي حديث أُم حبيبة: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحِدّ على ميّتٍ فوق ثلاثٍ إلا على زوج أربعةَ أشهر وعشراً" الحديث. الإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطِّيب والحُليّ والكُحْل والخضَاب بالحنّاء ما دامت في عدّتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعاً للذرائع، وحمايةً لحُرمات الله تعالى أن تنتهَك، وليس دَهْن المرأة رأسها بالزيت والشَّيرج من الطيب في شيء. يقال: ٱمرأة حادٌّ ومُحِدٌّ. قال الأصمعيّ: ولم نعرف «حدّتْ». وفاعل «لا يحل» المصدر الذي يمكن صياغته من «تُحِد» مع «أن» المرادة؛ فكأنه قال: الإحداد.

الثانية عشرة ـ وصفه عليه السلام المرأة بالإيمان يدل على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفى عنها زوجها إنها لا إحداد عليها؛ وهو قول ٱبن كنانة وٱبن نافع، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وٱبن المنذر، وروى عنه ٱبن القاسم أن عليها الإحداد كالمسلمة؛ وبه قال الليث والشافعيّ وأبو ثور وعامة أصحابنا؛ لأنه حكم من أحكام العدّة فلزمت الكتابيةَ للمسلم كلزوم المسكن والعدّة.

الثالثة عشرة ـ وفي قوله عليه السلام: "فوق ثلاث إلا على زوج" دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهنّ فوق ثلاث، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثاً تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها؛ فإن مات حميمها في بقية يوم أو ليلة ألغته وحسبت من الليلة القابلة.

الرابعة عشرة: هذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلَّهن المتوفَّى عنهنّ أزواجنّ، فيدخل فيه الإماءُ والحرائرُ والكبار والصغار؛ وهو مذهب الجمهور من العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا إحداد على أُمة ولا على صغيرة؛ حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي. قال ٱبن المنذر: أما الأمة الزوجة فهي داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار؛ وهو قول مالك والشافعيّ وأبى ثور وأصحاب الرأي؛ ولا أحفظ في ذلك عن أحد خلافاً، ولا أعلمهم يختلفون في الإحداد على أُمِّ الولد إذا مات سيدها؛ لأنها ليست بزوجة، والأحاديث إنما جاءت في الأزواج. قال الباجيّ: الصغيرة إذا كانت ممن تعقل الأمر والنهي وتلتزم ما حُدّ لها أُمرت بذلك، وإن كانت لا تدرك شيئاً من ذلك لصغرها فروَى ٱبن مُزَيْن عن عيسى يُجنِّبها أهلها جميع ما تجتنبه الكبيرة، وذلك لازم لها. والدليل على وجوب الإحداد على الصغيرة ما "رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم. سألته ٱمرأة عن بنت لها تُوفّى عنها زوجها فٱشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا مرّتين أو ثلاثاً؛ كل ذلك يقول لا ولم يسأل عن سِنّها" ؛ ولو كان الحكم يفترق بالصغر والكبر لسأل عن سِنها حتى يبيّن الحكم، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز، وأيضاً فإن كل من لزمتها العدّة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة.

الخامسة عشرة ـ قال ٱبن المنذر: ولا أعلم خلافاً أن الخضاب داخل في جملة الزِّينة المنهيّ عنها. وأجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الثياب المُصْبَغة والمعَصْفَرة، إلا ما صُبِغ بالسواد فإنه رَخَّص فيه عروةُ بن الزبير ومالك والشافعي، وكرهه الزُّهْري. وقال الزُّهري: لا تلبس ثوب عَصْب، وهو خلاف الحديث. وفي المدوّنة قال مالك: لا تلبس رقيقَ عَصْب اليَمَن؛ ووسّع في غليظه. قال ٱبن القاسم: لأن رقيقه بمنزلة الثياب المصبغة وتلبس رقيق الثياب وغليظه من الحرير والكتّان والقُطن. قال ٱبن المنذر: ورخّص كلُّ من أحفظ عنه في لباس البياض؛ قال القاضي عِياض: ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة لا تمسّه الحادّ رقيقاً كان أو غليظاً. ونحوه للقاضي عبد الوهاب قال: كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فلتمتنع منه الحادّ. ومنع بعض مشايخنا المتأخرين جيِّد البياض الذي يُتَزيّن به، وكذلك الرفيع من السواد. وروى ٱبن الموّاز عن مالك: لا تلبس حليّاً وإن كان حديداً؛ وفي الجملة أن كل ما تلبسه المرأة على وجه ما يستعمل عليه الحُلِيّ من التجمّل فلا تلبسه الحادّ. ولم ينص أصحابنا على الجواهر واليَواقيت والزمُرُّد وهو داخل في معنى الحليِّ. والله أعلم.

السادسة عشرة ـ وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفّى عنها زوجها، إلا الحسن فإنه قال: ليس بواجب؛ وٱحتج بما رواه عبد الله بن شدّاد بن الهاد "عن أسماء بنت عُمَيس قالت: لما أُصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَسَلّبي ثلاثاً ثم ٱصنعي ما شئت" . قال ٱبن المنذر: كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقال: المطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتختضِبان وتصنعان ما شاءا. وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم؛ ولعل الحسن لم تبلغه، أو بلغته فتأوّلها بحديث أسماء بنت عميس أنها ٱستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحِدّ على جعفر وهي ٱمرأته؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري وٱكتحلي. قال ٱبن المنذر؛ وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوه؛ وكان أحمد بن حنبل يقول: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به؛ وقاله إسحاق.

السابعة عشرة ـ ذهب مالك والشافعيّ إلى أنْ لا إحداد على مطلقة رجعية كانت أو بائنة واحدة أو أكثر؛ وهو قول ربيعة وعطاء. وذهب الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوريّ والحسن بن حَىّ وأبو ثور وأبو عبيد إلى أن المطلقة ثلاثاً عليها الإحداد؛ وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم بن عيينة. قال الحكم: هو عليها أوكد وأشدّ منه على المتوفَّى عنها زوجها؛ ومن جهة المعنى أنهما جميعاً في عدّة يحفظ بها النسب. وقال الشافعيّ وأحمد وإسحاق: الإحتياط أن تتقي المطلقة الزينة. قال ٱبن المنذر: وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحِدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" دليل على أن المطلقة ثلاثاً والمطلِّق حَيٌّ لا إحداد عليها.

الثامنة عشرة ـ أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها ثم توفى قبل ٱنقضاء العدة أن عليها عدّة الوفاة وترثه. وٱختلفوا في عدّة المطلقة ثلاثاً في المرض؛ فقالت طائفة تعتد عدّة الطلاق؛ هذا قول مالك والشافعيّ ويعقوب وأبي عبيد وأبي ثور. قال ٱبن المنذر: وبه نقول؛ لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات الأقْرَاء، وقد أجمعوا على المطلقة ثلاثاً لو ماتت لم يرثها المطلق، وذلك لأنها غير زوجة؛ وإذا كانت غير زوجة فهو غير زوج لها. وقال الثوريّ: تعتدّ بأقصى العدّتين. وقال النّعمان ومحمد: عليها أربعة أشهر وعشر تستكمل في ذلك ثلاث حِيَض.

التاسعة عشرة ـ وٱختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها أو طلاقه؛ فقالت طائفة: العدّة في الطلاق والوفاة من يوم يموت أو يطلّق؛ هذا قول ٱبن عمر وٱبن مسعود وٱبن عباس، وبه قال مسروق وعطاء وجماعة من التابعين، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوريّ وأبو ثور وأصحاب الرأي وٱبن المنذر. وفيه قول ثانٍ وهو أن عدّتها من يوم يبلغها الخبر؛ رُوي هذا القول عن عليّ، وبه قال الحسن البصريّ وقتادة وعطاء الخراسانيّ وجُلاَس بن عمرو. وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز: إن قامت بيِّنة فعدّتها من يوم مات أو طلّق، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر؛ والصحيح الأوّل لأنه تعالى علق العدّة بالوفاة أو الطلاق، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد ٱنقضت العدّة، فإذا تركته مع عدم العلم فهو أهون؛ ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدّتها ولا إحداد عليها. وأيضاً فقد أجمع العلماء على أنها لو كانت حاملاً لا تعلم طلاق الزوج أو وفاته ثم وضعت حملها أن عدّتها منقضية. ولا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المختلف فيها. ووجه من قال بالعدّة من يوم يبلغها الخبر، أن العدّة عبادة بترك الزينة وذلك لا يصح إلا بقصدٍ ونية، والقصد لا يكون إلا بعد العلم. والله أعلم.

الموفية عشرين ـ عدّة الوفاة تلزم الحرّة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل ـ (وعدّة جميعهن إلا الأمة) أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية في قوله تعالى: { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }. وعدّة الأمة المتوفَّى عنها زوجها شهران وخمس ليال. قال ٱبن العربيّ: نصف عدّة الحرة إجماعاً، إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوّى فيها بين الحرة والأُمة وقد سبقه الإجماع، لكن لصممه لم يسمع. قال الباجيّ: ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ٱبن سيرين، وليس بالثابت عنه أنه قال: عدّتها عدّة الحرّة.

قلت: قول الأصم صحيح من حيث النظر؛ فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقْرَاء عامةٌ في حق الأمة والحرّة؛ فعدّة الحرّة والأمة سواء على هذا النظر؛ فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرّة والأمة، وكما ٱستوت الأمة والحرّة في النكاح فكذلك تستوي معها في العدّة. والله أعلم. قال ٱبن العربيّ: وروى عن مالك أن الكتابية تعتدّ بثلاث حِيَض إذْ بها يَبْرأ الرحِم؛ وهذا منه فاسد جداً، لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها، وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها.

قلت: وعليه بناء ما في المدوّنة لا عدّة عليها إن كانت غير مدخول بها؛ لأنه قد علم براءة رحِمها، وهذا يقتضي أن تتزوّج مسلماً أو غيره إثر وفاته؛ لأنه إذا لم يكن عليها عدّة للوفاة ولا ٱستبراء للدخول فقد حلت للأزواج.

الحادية والعشرون ـ وٱختلفوا في عدّة أُمّ الولد إذا توفي عنها سيدها؛ فقالت طائفة: عدّتها أربعة أشهر وعشر؛ قاله جماعة من التابعين منهم سعيد والزهريّ والحسن البصريّ وغيرهم، وبه قال الأوزاعيّ وإسحاق. وروى أبو داود والدارقطنِيّ عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال: لا تلبّسوا علينا سنة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، عدّة المتوفَّىٰ عنها زوجها أربعة أشهر وعشر؛ يعني في أُمّ الولد؛ لفظ أبي داود. وقال الدارقطنيّ: موقوف. وهو الصواب، وهو مرسل لأن قبيصة لم يسمع من عمرو. قال ٱبن المنذر: وضعّف أحمد وأبو عبيد هذا الحديث. ورّوي عن علي وٱبن مسعود أن عدّتها ثلاث حيض؛ وهو قول عطاء وإبراهيم النخعيّ وسفيان الثوريّ وأصحابِ الرأي؛ قالوا: لأنها عدّة تجب في حال الحرية، فوجب أن تكون عدّة كاملة؛ أصله عدّة الحرة. وقال مالك والشافعيّ وأحمد وأبو ثور: عدّتها حيضة؛ وهو قول ٱبن عمر. وروي عن طاوس أن عدّتها نصف عدّة الحرّة المتوفى عنها؛ وبه قال قتادة. قال ٱبن المنذر: وبقول ٱبن عمر أقول؛ لأنه الأقل مما قيل فيه وليس فيه سنة تتبع ولا إجماع يعتمد عليه. وذكر ٱختلافهم في عدّتها في العتق كهو في الوفاة سواء، إلاَّ أن الأوزاعيّ جعل عدّتها في العتق ثلاث حيَض.

قلت: أصح هذه الأقوال قول مالك، لأن الله سبحانه قال: { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } فشرط في تربّص الأقْرَاء أن يكون عن طلاق؛ فانتفى بذلك أن يكون عن غيره. وقال: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } فعلّق وجوب ذلك بكون المتربِّصة زوجة؛ فدل على أن الأمة بخلافها. وأيضاً فإن هذه أمة موطوءة بمِلْك اليمين فكان ٱستبراؤها بحيضة؛ أصل ذلك الأمة.

الثانية والعشرون ـ إذا ثبت هذا فهل عدّة أُمِّ الولد ٱستبراء محضٌ أو عدّة؛ فالذي ذكره أبو محمد في معونته أن الحيضة ٱستبراء وليست بعدّة. وفي المدوّنة أن أُمَّ الولد عليها العدّة، وأن عدّتها حيضة كعدّة الحرّة ثلاث حيض. وفائدة الخلاف أناإذا قلنا هي عدّة فقد قال مالك: لا أحب أن تواعد أحداً ينكحها حتى تحيض حيضة. قال ٱبن القاسم: وبلغني عنه أنه قال: لا تبيت إلاَّ في بيتها؛ فأثبت لمدّة ٱستبرائها حكم العدّة.

الثالثة والعشرون ـ أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقةٍ للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة؛ لقوله تعالىٰ: { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 6].

وٱختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفَّىٰ عنها زوجها؛ فقالت طائفة: لا نفقة لها؛ كذلك قال جابر بن عبد الله وٱبن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعبد الملك بن يعلى ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وأحمد وإسحاق، وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي. وفيه قول ثانٍ وهو أن لها النفقة من جميع المال؛ ورُوي هذا القول عن عليّ وعبد الله وبه قال ٱبن عمر وشريح وٱبن سِيرين والشعبيّ وأبو العالية والنخعيّ وجُلاَس بن عمرو وحمّاد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوريّ وأبو عبيد. قال ٱبن المنذر: وبالقول الأوّل أقول؛ لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حَيٌّ مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه؛ فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه. وقال القاضي أبو محمد: لأن نفقة الحمل ليست بدّين ثابت فتتعلق بماله بعد موته، بدليل أنها تسقط عنه بالإعسار فبِأن تسقط بالموت أولى وأحرى.

الرابعة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } ٱختلف العلماء في الأربعة الأشهر والعشر التي جعلها الله ميقاتاً لِعدّة المتوفّى عنها زوجها، هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا؛ فقال بعضهم: لا تبرأ إذا كانت ممن توطأ إلاَّ بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر، وإلاَّ فهي مُسْتَرابة. وقال آخرون: ليس عليها أكثر من أربعة أشهر وعشرٍ، إلاَّ أن تستريب نفسها ريبةً بيِّنة؛ لأن هذه المدّة لا بدّ فيها من الحيض في الأغلب من أمر النساء إلاَّ أن تكون المرأة ممن لا تحيض أو ممن عرفت من نفسها أوعُرف منها أن حيضتها لا تأتيها إلا في أكثر من هذه المدة.

الخامسة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { وَعَشْراً } روى وكيع عن أبي جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أنه سئل: لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها، وسيأتي في الحج بيان هذا إن شاء الله تعالىٰ. وقال الأصمعيّ: ويُقال إن ولد كل حامل يرتكض في نصف حملها فهي مرِكض. وقال غيره: أركضت فهي مرِكضة وأنشد:

ومُرِكضةٌ صَرِيحِيٌّ أبوهاتهان لها الغلامةُ والغلامُ

وقال الخَطّابيّ: قوله { وَعَشْراً } يريد والله أعلم ـ الأيام بلياليها. وقال المبرد: إنما أنث العشر لأن المراد به المدّة. والمعنى وعشر مدد، كل مدّة من يوم وليلة، فالليلة مع يومها مدّة معلومة من الدهر. وقيل: لم يقل عشرة تغليباً لحكم الليالي إذالليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها. «وَعَشْراً» أخف في اللفظ؛ فتغلّب الليالي على الأيام إذا ٱجتمعت في التاريخ، لأن ٱبتداء الشهور بالليل عندالاستهلال، فلما كان أوّل الشهر الليلة غلب الليلة؛ تقول: صمنا خمساً من الشهر؛ فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار. وذهب مالك والشافعي والكوفيّون إلى أن المراد بها الأيام والليالي. قال ٱبن المنذر: فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلاً حتى يمضي اليوم العاشر. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا ٱنقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدّة مبهمة فغلّب التأنيث وتأوّلها على الليالي. وإلى هذا ذهب الأوزاعيّ من الفقهاء وأبو بكر الأصم من المتكليمن. ورُوي عن ٱبن عباس أنه قرأ «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَ لَيَالٍ».

قوله تعالىٰ: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيه ثلاث مسائل:

الأُولىٰ ـ أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن، وهوعبارة عن ٱنقضاء العدّة.

الثانية ـ قوله تعالىٰ: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } خطاب لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء. { فِيمَا فَعَلْنَ } يريد به التزوّج فَما دونه من التزيُّن وٱطِّراح الإحداد. { بِٱلْمَعْرُوفِ } أي بما أذن فيه الشرع من ٱختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد؛ لأنه حق للأولياء كما تقدّم.

الثالثة ـ وفي هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرُّج والتشوّف للزوج في زمان العِدّة. وفيها ردّ على إسحاق في قوله: إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وٱنقطعت رجعة الزوج الأوّل، إلاَّ أنه لا يحل لها أن تتزوّج حتى تغتسل. وعن شُريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة؛ قال الله تعالىٰ: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ } وبلوغ الأجل هنا ٱنقضاء العدّة بدخولها في الدّم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلاً؛ فإذا ٱنقضت عدّتها حلّت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك. والحديث عن ٱبن عباس لو صَحّ يحتمل أن يكون منه على الاستحباب، والله أعلم.