التفاسير

< >
عرض

وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٣٥
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالىٰ: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } إلى قوله { مَّعْرُوفاً } فيه تسع مسائل:

الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ جُنَاحَ } أي لا إثم، والجناح الإثم، وهو أصح في الشرع. وقيل: بل هوالأمر الشاق، وهو أصح في اللغة؛ قال الشماخ:

إذا تعلُو براكبها خليجا تذكّر ما لديه من الجُناح

وقوله: { عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } المخاطبة لجميع الناس؛ والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوّج معتدّة؛ أي لا وزْر عليكم في التعريض بِالخطبة في عدّة الوفاة. والتعريض: ضدّ التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره وهو من عُرْض الشيء وهو جانبه؛ كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره. وقيل؛ هو من قولك عرَّضت الرجل، أي أهديت إليه تُحْفة، وفي الحديث: أن ركباً من المسلمين عرَّضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاً؛ أي أهْدُوا لهما. فالمعرّض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاماً يفهم معناه.

الثانية ـ قال ٱبن عطية: أجمعت الأُمَّة على أن الكلام مع المعتدّة بما هو نص في تزوّجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت الأُمَّة على أن الكلام معها بما هو رَفَثٌ وذِكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وكذلك ما أشبهه، وجُوّز ما عدا ذلك. ومن أعظمه قرباً إلى التصريح "قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: كوني عند أُم شريك ولا تسبقيني بنفسك" . ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعاً لأنها كالزوجة. وأما من كانت في عدّة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها والله أعلم. وروي في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جِماعها يرجع إلى قسمين: الأول ـ أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها. والثاني ـ أن يشير بذلك إليها دون واسطة؛ فيقول لها: إني أُريد التزويج؛ أو إنك لجميلة، إنك لصالحة، إن الله لسائق إليك خيراً، إنّي فيك لراغب، ومن يرغب عنك! إنك لنافقة، وإن حاجتي في النساء، وإن يقدّر الله أمراً يكن. هذا هو تمثيل مالك وٱبن شهاب. وقال ٱبن عباس: لا بأس أن يقول: لا تسبقيني بنفسك، ولا بأس أن يهدي إليها، وأن يقوم بشغلها في العدّة إذا كانت من شأنه؛ قاله إبراهيم. وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج؛ وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قالت سكينة بنت حنظلة ٱستأذن عليّ محمد بن عليّ ولم تنقض عدّتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفِت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من عليّ وموضعي في العرب. قلت غفر الله لك يا أبا جعفر! إنك رجل يؤخذ عنك، تخْطُبني في عدّتي! قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِنْ عليّ. "وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُم سلمة وهي مَتأيِّمة من أبي سَلَمة فقال: لقد علمتِ أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي" كانت تلك خِطبة؛ أخرجه الدّارقطنِيّ. والهدية إلى المعتدّة جائزة، وهي من التعريض؛ قاله سُحْنون وكثير من العلماء وقاله إبراهيم. وَكرِهَ مجاهدٌ أن يقول لها: لا تسبقيني بنفسك ورآه من المواعدة سِرّاً. قال القاضي أبو محمد بن عطية: وهذا عندي على أن يتأوّل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة أنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوّجها لا أنه أرادها لنفسه وإلاَّ فهو خلاف لقول النبي صلى الله عليه وسلم.

الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } الخِطْبة (بكسر الخاء): فعل الخاطب من كلام وقصد وٱستلطاف بفعل أو قول. يُقال: خطبها يخْطُبها خَطْباً وخِطْبَةً. ورجل خَطّاب كثير التصرف في الخِطْبة؛ ومنه قوله الشاعر:

بَرَّحَ بالعَيْنَيْن خَطّابُ الكُثَبْ يقولُ إنِّي خاطِبٌ وقد كذَبْ
وَإنَّمـا يَخْطُـبُ عُسّـاً مَـن حَلَـبْ

والخَطِيب: الخاطِب. والخِطِّيبيَ: الخِطْبَة؛ قال عدِيّ بن زيد يذكر قصد جَذِيمَة الأبْرَش لخِطْبَة الزَّبّاء:

لِخَطِّيبيَ الَّتي غَدَرَتْ وَخَانَتْ وهُنَّ ذَوَاتُ غَائِلَةٍ لْحِينَا

والخِطْبُ؛ الرجل الذي يخطُب المرأة؛ ويُقال أيضاً: هي خِطْبُه وخِطْبَتُه التي يخطُبها. والخِطْبَة فِعلة كحِلسة وقِعدة: والخُطْبَة (بضم الخاء) هي الكلام الذي يُقال في النكاح وغيره. قال النحاس: والخُطْبَة ما كان لها أوّل وآخر؛ وكذا ما كان على فَعْلة نحو الأَكْلَة والضَّغْطَة.

الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ } معناه سترتم وأضمرتم من التزوّج بهابعد ٱنقضاء عدّتها. والإكْنَان: السِّتْر والإخفاء؛ يُقال: كننته وأكننته بمعنى واحد. وقيل: كننته أي صُنْته حتى لا تصيبه آفةٌ وإن لم يكن مستوراً؛ ومنه بَيضٌ مَكْنُونٌ ودِرٌّ مكنون. وأكنَنْته أسررته وسترته. وقيل: كنَنْت الشيء (من الأجْرام) إذا سترته بثوب أو بيت أو أرض ونحوه. وأكْنَنْت الأمر في نفسي. ولم يسمع من العرب «كننته في نفسي». ويُقال: أكنّ البيتُ الإنسان؛ ونحو هذا. فرفع الله الجُنَاح عمن أراد تزوّج المعتدّة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المُوَاعَدَة التي هي تصريح بالتزويج وبناءٌ عليه وٱتفاق على وَعْد. ورَخّص لعلمه تعالىٰ بغَلَبَة النفوس وطَمَحِها وضعف البشر عن ملكها.

الخامسة ـ استدلت الشافعية بهذه الآية على أن التعريض لا يجب فيه حَدٌّ؛ وقالوا: لما رفع الله تعالىٰ الحرج في التعريض في النكاح دَلّ على أن التعريض بالقَذْف لا يوجب الحدّ؛ لأنّ الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح. قلنا هذا ساقط لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخِطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف؛ والأعراض يجب صيانتها، وذلك يوجب حدّ المعرِّض؛ لئلا يتطرّق الفَسَقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.

السادسة ـ قوله تعالىٰ: { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي إما سِرّاً وإما إعلاناً في نفوسكم وبألسنتكم؛ فرخص في التعريض دون التصريح. الحسن: معناه ستخطبونهنَّ.

السابعة ـ قوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } أي على سرّ فحذف الحرف؛ لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر.

وٱختلف العلماء في معنى قوله تعالىٰ: { سِرّاً } فقيل: معناه نكاحاً، أي لا يقل الرجل لهذا المعتدة تزوّجيني؛ بل يعرّض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية؛ هذا قول ٱبن عباس وٱبن جبير ومالك وأصحابه والشعبيّ ومجاهد وعكرمة والسدّيّ وجمهور أهل العلم. «وسِرّاً» على هذا التأويل نصب على الحال، أي مستسِرين. وقيل: السر الزنا، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدّة ثم التزوّج بعدها. قال معناه جابر بن زيد وأبو مِجْلزَ لاحق بن حُميد، والحسن بن أبي الحسن وقتادة والنخعيّ والضحاك، وأن السر في هذه الآية الزنا، أي لا تواعدوهنّ زنا، وٱختاره الطبريّ؛ ومنه قول الأعشىٰ:

فَلاَ تقرَبَنّ جارةً إنّ سرّهاعليك حرامٌ فٱنْكِحَنْ أو تَأَبَّدا

وقـال الحُطَيئة:

ويحرم سِرُّ جارتهم عليهمويأكل جارُهم أنفَ القِصاعِ

وقيل: السر الجِماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيباً لهن في النكاح فإنّ ذكر الجماع مع غير الزوج فُحْشٌ؛ هذا قول الشافعيّ. وقال ٱمرؤ القيس:

ألاَ زعمت بَسْباسة اليومَ أننيكبِرْتُ وألاَّ يُحِسن السِرّ أمْثَالِي

وقــال رؤبــة:

فكُـفّ عـن إسرارهـا بعـد العَسَـقْ

أي كف عن جماعها بعد ملازمته لذلك. وقد يكون السر عقدة النكاح، سِرّاً كان أو جهراً، قال الأعشىٰ:

فلن يطلبوا سِرّها للغِنَىولن يُسْلِموها لإزهادها

وأراد أن يطلبوا نكاحها لكثرة مالها، ولن يسلموها لقِلة مالها. وقال ٱبن زيد: معنى قوله { وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } أن لا تنكحوهنّ وتكتمون ذلك؛ فإذا حلّت أظهرتموه ودخلتم بهن؛ وهذا هو معنى القول الأوّل؛ فٱبن زيد على هذا قائل بالقول الأوّل؛ وإنما شَذّ في أن سمى العقد مُوَاعَدَةً، وذلك قَلِقٌ. وحكى مكيّ والثعلبي عنه أنه قال: الآية منسوخة بقوله تعالىٰ: { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ }.

الثامنة ـ قال القاضي أبو محمد بن عطية: أجمعت الأُمة على كراهة المواعدة في العدّة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمَتِه. قال ٱبن الموّاز: وإما الولِيّ الذي لا يملك الجبر فأكرهُهُ وإن نزل لم أفسخُه. وقال مالكرحمه الله فيمن يواعد في العدّة ثم يتزوج بعدها: فراقها أحب إليّ، دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة؛ فإذا حلّت خطبها مع الخطّاب؛ هذه رواية ٱبن وهب، وروى أشْهَبُ عن مالك أنه يفرق بينهما إيجاباً؛ وقاله ٱبن القاسم. وحكى ٱبن الحارث مثلَه عن ٱبن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبّد. وقال الشافعيّ: إن صرّح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدّة فالنكاح ثابت والتصريح لهما مكروه؛ لأن النكاح حادث بعد الخِطبة؛ قاله ٱبن المنذر.

التاسعة ـ قوله تعالىٰ: { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ٱستثناء منقطع بمعنى لكن؛ كقوله { إِلاَ خطأً } أي لكن خطأ. والقول المعروف هو ما أُبيح من التعريض. وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول للمعتدّة: ٱحبسي عليَّ نفسك فإن لي بك رغبة؛ فتقول هي: وأنا مثل ذلك؛ وهذا شبه المواعدة.

قوله تعالىٰ: { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } فيه تسع مسائل:

الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ } قد تقدّم القول في معنى العزم؛ يُقال: عزم الشيءَ وعزم عليه. والمعنى هنا: ولا تعزِموا على عقدة النكاح. ومن الأمر البَيِّن أن القرآن أفصح كلام؛ فما ورد فيه فلا معترض عليه، ولا يشك في صحته وفصاحته؛ وقد قال الله تعالىٰ: { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ } [البقرة: 227] وقال هنا: { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ } والمعنى: لا تعزِموا على عقدة النكاح في زمان العدّة ثم حذف على ما تقدّم. وحكى سيبويه: ضُرب فلانٌ الظهرَ والبطنَ؛ أي على. قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يُقاس عليه. قال النحاس: ويجوز أن يكون «ولا تعقدوا عقدة النكاح»؛ لأن معنى «تعزموا» وتعقدوا واحدٌ. ويُقال: «تعُزموا» بضم الزاي.

الثانية ـ قوله تعالىٰ: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } يريد تمام العدّة. والكتاب هنا هو الحَدّ الذي جُعل والقَدْر الذي رُسِم من المدّة؛ سمّاها كتاباً إذْ قد حَدّه وفرضَه كتاب الله كما قال: { { كِتَابَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } } [النساء: 24] وكما قال: { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [النساء: 103]. فالكتاب: الفرض، أي حتى يبلغ الفرض أجله؛ { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } [البقرة: 183] أي فرض. وقيل: في الكلام حذف، أي حتى يبلغ فرضُ الكتابِ أجله؛ فالكتاب على هذا التأويل بمعنى القرآن. وعلى الأوّل لا حذف فهو أولى، والله أعلم.

الثالثة ـ حرّم الله تعالىٰ عقد النكاح في العدّة بقوله تعالىٰ: { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } وهذا من المحكم المجمع على تأويله، أن بلوغ أجله ٱنقضاء العدّة. وأباح التعريض في العدّة بقوله: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } الآية. ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك، وٱختلفوا في ألفاظ التعريض على ما تقدّم. وٱختلفوا في الرجل يخطب ٱمرأة في عدّتها جاهلاً، أو يواعدها ويعِقد بعد العدّة؛ وقد تقدّم هذا في الآية التي قبلها. وٱختلفوا إن عزم العُقْدَةَ في العدّة وعُثِر عليه ففسخ الحاكم نكاحه؛ وذلك قبل الدخول وهي:

الرابعة ـ فقول عمر بن الخطاب وجماعةٍ من العلماء أن ذلك لا يؤبّد تحريماً، وأنه يكون خاطباً من الخطاب؛ وقاله مالك وٱبن القاسم في المدوّنة في آخر الباب الذي يليه «ضرب أجل المفقود». وحكي ٱبن الجَلاّب عن مالك رواية أن التحريم يتأبّد في العقد وإن فسخ قبل الدخول؛ ووجهه أنه نكاح في العِدّة فوجب أن يتأبّد به التحريم؛ أصله إذا بَنَى بها. وأما إن عقد في العِدّة ودخل بعد ٱنقضائها وهي:

الخامسة ـ فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العِدْة؛ يتأبّد التحريم بينهما. وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبّد بذلك تحريم. وقال مالك: يتأبَّد التحريم. وقال مرّة: وما التحريم بذلك بالبين؛ والقولان له في المدوّنة في طلاق السنة.وأما إن دخل في العدّة وهي:

السادسة ـ فقال مالك والليث والأوزاعيّ: يفرق بينهما ولا تحل له أبداً. قال مالك والليث: ولا بملك اليمين؛ مع أنهم جوّزوا التزويج بالمزنيّ بها. وٱحتجوا بأن عمر بن الخطاب قال: لا يجتمعان أبداً. قال سعيد: ولها مهرها بما ٱستحلّ من فرجها؛ أخرجه مالك في موطئه وسيأتي. وقال الثوريّ والكوفيون والشافعيّ: يفرّق بينهما ولا يتأبّد التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتدّ منه، ثم يكون خاطباً من الخطاب. وٱحتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها؛ فكذلك وطؤه إياها في العِدّة. قالوا: وهو قول عليّ. ذكره عبد الرزاق. وذكر عن ٱبن مسعود مثله؛ وعن الحسن أيضاً. وذكر عبد الرزاق عن الثوريّ عن أشعث عن الشعبيّ عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان. وذكر القاضي أبو الوليد الباجيّ في المنتقى فقال: لا يخلو الناكح في العدّة إذا بني بها أن يبني بها في العِدّة أو بعدها؛ فإن كان بنى بها في العدّة فإن المشهور من المذهب أن التحريم يتأبّد؛ وبه قال أحمد بن حنبل. وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه أنّ في التي يتزوّجها الرجل في عدّة من طلاق أو وفاة عالماً بالتحريم روايتين؛ إحداهما ـ أن تحريمه يتأبّد على ما قدّمناه. والثانية ـ أنه زانٍ وعليه الحدّ، ولا يُلحق به الولد، وله أن يتزوّجها إذا ٱنقضت عدّتها؛ وبه قال الشافعيّ وأبو حنيفة. ووجه الرواية الأُولىٰ ـ وهي المشهورة ـ ما ثبت من قضاء عمر بذلك، وقيامه بذلك في الناس، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار، ولم يُعلم له مخالفٌ؛ فثبت أنه إجماع. قال القاضي أبو محمد: وقد رُوي مثل ذلك عن عليّ بن أبي طالب، ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وٱنتشاره؛ وهذا حكم الإجماع. ووجه الرواية الثانية أن هذا وطء ممنوع فلم يتأبد تحريمه؛ كما لو زوّجت نفسها أو تزوّجت متعة أو زنت. وقد قال القاضي أبو الحسن: إن مذهب مالك المشهور في ذلك ضعيف من جهة النظر. والله أعلم. وأسند أبو عمر: حدّثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ بن محمد بن إسماعيل عن نعيم بن حماد عن ٱبن المبارك عن أشعث عن الشعبيّ عن مسروق قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ٱمرأة من قريش تزوّجها رجل من ثَقِيف في عدّتها فأرسل إليهما ففرّق بينهما وعاقبهما وقال: لا تنكحْها أبداً وجعل صداقها في بيت المال؛ وفشا ذلك في الناس فبلغ علياً فقال: يرحم الله أمير المؤمنين! ما بال الصداق وبيت المال! إنما جهِلاً فينبغي للإمام أن يردّهما إلى السنة. قيل: فما تقول أنت فيهما؟ فقال: لها الصداق بما ٱستحِلّ من فرجها، ويفرّق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمِّل عدّتها من الأوّل، ثم تعتدّ من الثاني عدّة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء. فبلغ ذلك عمر فخطب الناس فقال: أيها الناس، ردّوا الجهالات إلى السنة. قال الكِيا الطبريّ: ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على ٱمرأة نكاحها وهي في عدّة من غيره أن النكاح فاسد. وفي ٱتفاق عمر وعليّ على نفي الحدّ عنهما ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحدّ؛ إلاَّ أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه، ومع العلم به مختلف فيه. وٱختلفوا هل تعتدّ منهما جميعاً، وهذه مسألة العِدّتين وهي:

السابعة ـ فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدّتها من الأوّل، وتستأنف عدّة أُخرى من الآخر؛ وهو قول الليث والحسن بن حَيّ والشافعيّ وأحمد وإسحاق. ورُوي عن عليّ كما ذكرنا، وعن عمر على ما يأتي. وروى محمد بن القاسم وٱبن وهب عن مالك: أن عدّتها من الثاني تكفيها من يوم فُرّق بينه وبينها، سواء كانت بالحمل أو بالأقراء أو بالشهور؛ وهو قول الثوريّ والأُوزاعيّ وأبي حنيفة. وحجتهم الإجماع على أن الأوّل لا ينكحها في بقية العدّة منه؛ فدل على أنها في عدّة من الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدّتها منه. أجاب الأوّلون فقالوا: هذا غير لازم لأن منع الأوّل من أن ينكحها في بقية عدّتها إنما وجب لما يتلوها من عدّة الثاني؛ وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين، لا يدخل أحدهما في صاحبه. وخرّج مالك عن ٱبن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يَسار أن طُلَيْحَة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفيّ فطلقها فنكحت في عدّتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالْمُخَفَقة ضربات وفرّق بينهما؛ ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيّما ٱمرأة نَكحت في عدّتها فإن كان زوجها الذي تزوّج بها لم يدخل بها فُرّق بينهما، ثم ٱعتدّت بقية عدّتها من الزوج الأوّل، ثم كان الآخر خاطباً من الخُطّاب؛ وإن كان دخل بها فُرّق بينهما ثم ٱعتدّت بقية عدّتها من الأوّل، ثم ٱعتدّت من الآخر ثم لا يجتمعان أبداً. قال (مالك): وقال سعيد بن المسيب: ولها مهرها بما ٱسْتَحَل من فرجها. قال أبو عمر: وأما طُلَيْحة هذه فهي طليحة بنت عبيد الله أُخت طلحة بن عبيد الله التِّيميّ، وفي بعض نسخ الموطأ من رواية يحيى: طليحة الأسدية وذلك خطأ وجهل، ولا أعلم أحداً قاله.

الثامنة ـ قوله «فضربها عمر بالمِخْفَقَة وضرب زوجها ضربات» يريد على وجه العقوبة لما ٱرتكباه من المحظور وهو النكاح في العدّة. وقال الزهريّ: فلا أدري كم بلغ ذلك الجلد. قال: وجلد عبد الملك في ذلك كل واحد منهما أربعين جلدة. قال: فسئل عن ذلك قُبَيْصَة بن ذُؤَيْب فقال: لو كنتم خففتم فجلدتم عشرين! وقال ٱبن حبيب في التي تتزوّج في العدّة فيمسها الرجل أو يقبل أو يباشر أو يغمِز أو ينظر على وجه اللذة أن على الزوجين العقوبة وعلى الوليّ وعلى الشهود ومن علم منهم أنها في عدّة، ومن جهل منهم ذلك فلا عقوبة عليه. وقال ٱبن الموّاز: يجلد الزوجان الحدّ إن كانا تعمدَا ذلك؛ فيحمل قول ٱبن حبيب على من علم بالعدّة، ولعله جهل التحريم ولم يتعمد ٱرتكاب المحظور فذلك الذي يعاقب؛ وعلى ذلك كان ضرب عمر المرأةَ وزوجها بالمِخْفَفَة ضربات. وتكون العقوبة والأدب في ذلك بحسب حال المعاقَب. ويحمل قول ٱبن الموّاز على أنهما عَلِمَا التحريم وٱقتحما ٱرتكاب المحظور جرأة وإقداماً. وقد قال الشيخ أبو القاسم: إنهما روايتان في التعمد؛ إحداهما يُحدّ، والثانية يُعاقب ولا يُحدّ.

التاسعة ـ قوله تعالى: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ } هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه.