قوله تعالى: { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } خاطب آدم وإبليس. «مِنها» أي من الجنة. وقد قال لإبليس:
{ { ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً } [الأعراف: 18] فلعله أخرِج من الجنة إلى موضع من السماء، ثم أُهبِط إلى الأرض. { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } تقدم في «البقرة» أي أنت عدوّ للحية ولإبليس وهما عدوّان لك. وهذا يدل على أن قوله: «اهبِطا» ليس خطاباً لآدم وحوّاء؛ لأنهما ما كانا متعاديين؛ وتضمن هبوط آدم هبوط حواء. { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } أي رشداً وقولاً حقاً. وقد تقدّم في «البقرة». { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ } يعني الرسل والكتب. { فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية. وعنه: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي } أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه. وقيل: عما أنزلت من الدلائل. ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول؛ لأنه كان منه الذكر. { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أي عيشاً ضيقاً؛ يقال: منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث والجمع؛ قال عنترة:إنْ يُلحقوا أَكْررْ وإنْ يُستلحَمُواأَشدُدْ وإنْ يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزِل
وقال أيضاً:إنّ المنيةَ لو تُمثَّل مُثِّلتْمثلي إذا نَزلُوا بضَنْكِ المنزلِ
وقرىء «ضَنْكَى» على وزن فَعْلَى: ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله ـ عز وجل ـ بسماح وسهولة ويعيش عيشاً رافِغاً؛ كما قال الله تعالى: { { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النمل: 97]. والمعرض عن الدين مستولٍ عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشحّ، الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضَنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتَشوَّش عليه رزقُه، وكان في عيشة ضنك. وقال عكرمة: «ضَنْكاً» كسباً حراماً. الحسن: طعام الضَّرِيع والزَّقُّوم. وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر؛ قاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود، ورواه أبو هريرة مرفوعاً: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناه في كتاب «التذكرة»؛ قال أبو هريرة: يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وهو المعيشة الضنك. { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } قيل: أعمى في حال وبصيراً في حال؛ وقد تقدّم في آخر «سبحان». وقيل: أعمى عن الحجة؛ قاله مجاهد. وقيل: أعمى عن جهات الخير، لا يهتدي لشيء منها. وقيل: عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه، كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ } أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى. { وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له. وقال ابن عباس ومجاهد: أي { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ } عن حجتي { وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } أي عالماً بحجتي؛ القشيري: وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة في الدنيا. { قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا } أي قال الله تعالى له: { كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا } أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا. { فَنَسِيتَهَا } أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها. { وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } أي تترك في العذاب؛ يريد جهنم. { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في المصنوعات، والتفكر فيها، وجاوز الحدّ في المعصية. { وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ } أي لم يصدق بها. { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ } أي أفظع من المعيشة الضّنك، وعذاب القبر. { وَأَبْقَىٰ } أي أدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.