التفاسير

< >
عرض

ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
٢٤
قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي
٢٥
وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي
٢٦
وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي
٢٧
يَفْقَهُواْ قَوْلِي
٢٨
وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي
٢٩
هَارُونَ أَخِي
٣٠
ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
٣١
وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي
٣٢
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً
٣٣
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً
٣٤
إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً
٣٥
-طه

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } لما آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه. «طغى» معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد. { قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي * وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي } طلب الإعانة لتبليغ الرسالة. ويقال: إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن؛ فقال موسى: يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه؛ فأتاه ملك من خزان الريح فقال: يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به. فقال موسى عند ذلك: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } أي وسِّعه ونوّره بالإيمان والنبوّة. { وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي } أي سهّل عليّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي } يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فِيهِ وهو طفل. قال ابن عباس: كانت في لسانه رُتَّة. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة، وأخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية: هذا عدوّي فهات الذبّاحين. فقالت آسية: على رِسْلك فإنه صبيّ لا يفرق بين الأشياء. ثم أتت بطَسْتين فجعلت في أحدهما جمراً وفي الآخر جوهراً، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه، فكانت تلك الرتّة. وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ. ولما دعاه قال: إلى أيّ ربٍّ تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قَصْعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. ثم اختلف هل زالت تلك الرتّة؛ فقيل: زالت بدليل قوله: { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ }. وقيل: لم تزل كلها؛ بدليل قوله حكاية عن فرعون: { { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52]. ولأنه لم يقل احلل كل لساني، فدل على أنه بقي في لسانه شيء من الاستمساك. وقيل: زالت بالكلية بدليل قوله: «أُوتِيتَ سُوْلَكَ» وإنما قال فرعون: { { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52] لأنه عرف منه تلك العقدة في التربية، وما ثبت عنده أن الآفة زالت.

قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون: { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } حين كلمه موسى بلسان ذَلِق فصيح. والله أعلم. وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } أي يعلموا ما أقوله لهم ويفهموه. والفقه في كلام العرب الفهم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فَقِه الرجل بالكسر. وفلان لا يَفْقَه ولا يَنْقَه. وأفقهتك الشيء. ثم خُصّ به علم الشريعة، والعالم به فقيه. وقد فَقُه بالضم فَقَاهَة وفَقَّهه الله وتَفَقَّه إذا تعاطى ذلك. وفاقهته إذا باحثته في العلم؛ قاله الجوهري. والوزير المؤازر كالأكيل المؤاكل؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. وفي كتاب النسائي عن القاسم بن محمد: سمعت عمتي تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً إن نسي ذَكَّره وإن ذَكَر أعانه" . ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله" رواه البخاري. فسأل موسى الله تعالى أن يجعل له وزيراً، إلا أنه لم يرد أن يكون مقصوراً على الوزارة حتى لا يكون شريكاً له في النبوّة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. وعَيَّن فقال: «هَرُونَ». وانتصب على البدل من قوله: «وَزِيراً». أو يكون منصوباً بـ«ـاجعل» على التقديم والتأخير، والتقدير: واجعل لي هارون أخي وزيراً. وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل: بثلاث. { ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } أي ظهري. والأزر الظهر من موضع الحَقْوين، ومعناه تقوى به نفسي؛ والأزر القوّة، وآزره قوّاه. ومنه قوله تعالى: { { فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ } [الفتح: 29]. وقال أبو طالب:

أليس أبونا هاشمٌ شَدَّ أَزْرَهوأَوْصى بنيه بالطِّعانِ وبالضَّرْبِ

وقيل: الأزر العون. أي يكون عوناً يستقيم به أمري. قال الشاعر:

شَددتُ به أَزْرِي وأَيقنْتُ أَنَّهُأخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبُه

وكان هارون أكثر لحماً من موسى، وأتم طولاً، وأبيض جسماً، وأفصح لساناً. ومات قبل موسى بثلاث سنين. وكان في جبهة هارون شامة، وعلى أرنبة أنف موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده، وقيل: إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه. والله أعلم.

{ وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي } أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون: كان هارون يومئذٍ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي هو هارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه؛ فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولاً. وقرأ العامة «أخي ٱشْدُدْ» بوصل الألف «وَأَشْرِكْهُ» بفتح الهمزة على الدعاء، أي اشدد يا رب أزري، وأشركه معي في أمري. وقرأ ابن عامر ويحيـى بن الحارث وأبو حَيْوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق «أَشْدُدْ» بقطع الألف «وَأُشرِكْه» [بضم الألف أي أنا أفعل ذلك أشدد أنا به أزري «وأشركه»] أي أنا يا رب «في أمري». قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جواباً لقوله: { وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً } وهذه القراءة شاذة بعيدة؛ لأن جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة؛ فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيراً من أهلي أشدد به أزري، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صلى الله عليه وسلم فيخبر به، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من «أَخِي» ابن كثير وأبو عمرو. { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً } قيل: معنى «نسبحك» نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. «وكَثِيراً» نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتاً لوقت. والإدغام حسن؛ وكذا { وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً }. { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } قال الخطابي: البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الأمور، فالمعنى؛ أي عالماً بنا، ومدركاً لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا أيضاً كذلك يا رب.