التفاسير

< >
عرض

وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ
٥٧
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ
٥٨
-الأنبياء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } أخبر أنه لم يكتف بالمحاجّة باللسان بل كسر أصنامهم فِعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذبّ عن الدين. والتاء في «تَاللَّهِ» تختص في القسم باسم الله وحده، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر:

تاللَّهِ يَبْقَى على الأيام ذو حِيَدٍبمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ

وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لأكِيدن أصنامكم، أي لأمكرنّ بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيداً ومكيدة، وكذلك المكايدة؛ وربما سمي الحرب كيدا؛ يقال: غزا فلان فلم يَلق كيداً، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا ـ روي ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في «والصافاتِ» ـ فقال إبراهيم في نفسه: { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ }. قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم يسمعه إلا رجل واحد وهو الذي أفشاه عليه. والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره. ومثله { { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } [المنافقون: 8]. وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الذين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله: { { إِنِّي سَقِيمٌ } [الصافات: 89] أي ضعيف عن الحركة.

قوله تعالى: { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } أي فتاتاً. والجذ الكسر والقطع؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجِذاذ والجُذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جُذاذ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن «جِذَاذاً» بكسر الجيم؛ أي كسراً وقطعاً جمع جَذيذ وهو الهشيم، مثل خَفيف وخِفاف وظَريف وظِراف. قال الشاعر:

جَذَّذ الأصنام في مِحْرابِهاذاك في الله العليِّ المقتدِر

الباقون بالضم؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. (مثل) الحُطام والرُّفات الواحدة جُذَاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال: «فجعلهم»؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال «جَذَاذاً» بفتح الجيم؛ والفتح والكسر لغتان كالحَصاد والحِصاد. أبو حاتم: الفتح والكسر والضم بمعنى؛ حكاه قطرب. { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه؛ ليحتج به عليهم. { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ } أي إلى إبراهيم ودينه { يَرْجِعُونَ } إذا قامت الحجة عليهم. وقيل: «لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ» أي إلى الصنم الأكبر «يَرْجِعُونَ» في تكسيرها.