التفاسير

< >
عرض

وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ
٢٧
-الحج

الجامع لاحكام القرآن

فيه سبع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } قرأ جمهور الناس «وأذِّن» بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن مُحَيْصِن «وآذن» بتخفيف الذال ومدّ الألف. ابن عطية: وتصحّف هذا عَلَى ابنِ جِنّي، فإنه حكى عنهما «وأذن» على أنه فعل ماض، وأعرب عَلَى ذلك بأن جعله عطفاً على «بوّأنا». والأذان الإعلام، وقد تقدّم في «براءة».

الثانية: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذّن في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ الإبلاغ؛ فصعِد إبراهيم خليل الله جبل أبي قُبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثِيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحُجّوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لَبَّيْكَ اللَّهُمّ لَبَّيْك! فمن أجاب يومئذٍ حج على قدر الإجابة، إن أجاب مرّةً فمرّة، وإن أجاب مرتين فمرّتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير. وروي عن أبي الطُّفيل قال: قال لي ابن عباس: أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت: لا! قال: لما أمِر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورُفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك. وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تمّ عند قوله «السجود»، ثم خاطب الله عز وجل محمداً عليه الصلاة والسلام فقال: «وأذّن في الناس بالحج»؛ أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث: إن الخطاب من قوله «أن لا تشرك» مخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر؛ لأن القرآن أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو «أن لا تشرك بي» بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب؛ فالمعنى على هذا: وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس «بالحج» بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمِر به من شرائع الدين. والله أعلم.

الثالثة: قوله تعالى: { يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ } وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال: «يأتوك» وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادَى إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجاً فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم. ابن عطية: «رجالاً» جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال جمع رَجْل، والرَّجْل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع: رُجّال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة «رُجَالا» بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد «رُجَالَى» على وزن فُعَالَى؛ فهو مثل كسالى. قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه، رُجّال مثل رُكّاب، وهو الذي روى عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورَجْلة، ورَجْل، ورَجّالة. والذي روي عن مجاهد رُجَالاً غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كُسالى وسُكارى، ولو نُوِّن لكان على فُعالٍ، وفُعَالٌ في الجمع قليل. وقدّم الرجال على الرُّكبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. { وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ } لأن معنى «ضامر» معنى ضوامر. قال الفراء: ويجوز «يأتي» على اللفظ. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال: ضَمَرَ يَضْمُر ضُموراً؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال: { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } أي أثّر فيها طول السفر. وردّ الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال: { { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } [العاديات: 1] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.

الرابعة: قال بعضهم: إنما قال «رجالا» لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقوله: «رِجَالا» من قولك: هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله: «وعلى كل ضامر» يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى: «رجالا» وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: ما آسَى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججتُ ماشياً، فإني سمعت الله عز وجل يقول: «يأتوك رجالا» وقال ابن أبي نجِيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود «يأتون» وهي قراءة ابن أبي عَبْلة والضحاك، والضمير للناس.

الخامسة: لا خلاف في جواز الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرِين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقّة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: "ارْبطوا أوساطكم بأزُرِكم" ومشَى خِلْط الهَرْولَة؛ خرّجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلّها أفضل؛ للاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.

السادسة: استدلّ بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في المَوّازِيّة: لا أسمع للبحر ذكراً، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضِفّة بحر فيأتيها الناس في السفن، ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلاً وإما على ضامر، فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقويّ. فأما إذا اقترن به عدوٌّ وخوفٌ أو هَوْل شديد أو مرض يلْحَق شخصاً، فمالكٌ والشافعيّ وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاماً، ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف.

قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في «البقرة» بيانه. والفَجّ: الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في «الأنبياء». والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة «يأتِين». وقرأ أصحاب عبد الله «يأتون» وهذا للركبان و«يأتِين» للجمال؛ كأنه قال: وعلى إبل ضامرة يأتين { مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } أي بعيد؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه:

وقاتِـم الأعْـمـاق خـاوِي المـخـتَـرق

السابعة: واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا؛ فروى أبو داود قال: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحداً يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ترفع الأيدي في سبعة مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصّفَا والْمَرْوَة والموقفين والجمرتين" . وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوريّ وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجراً المكيّ راويه مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله؟.