التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ
٥٢
فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
٥٣
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ
٥٤
-المؤمنون

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } المعنى: هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالتزموه. والأمّة هنا الدِّين؛ وقد تقدم محامله؛ ومنه قوله تعالى: { { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } [الزخرف: 23] أي على دين. وقال النابغة:

حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةًوهل يَأْثَمَنْ ذو أمّةٍ وهو طائع

الثانية: قرىء «وإن هذه» بكسر «إنّ» على القطع، وبفتحها وتشديد النون. قال الخليل: هي في موضع نصب لمّا زال الخافض؛ أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفرّاء: «أنّ» متعلقة بفعل مضمر تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. وهي عند سيبويه متعلقة بقوله: «فاتقون»؛ والتقدير فاتقون لأن أمتكم واحدة. وهذا كقوله تعالى: { { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } [الجن: 18]؛ أي لأن المساجد لله فلا تدعوا معه غيره. وكقوله: «لإِيلاَفِ قُرَيشٍ»؛ أي فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلاف قريش.

الثالثة: وهذه الآية تقوّي أن قوله تعالى: «يأيها الرسل» إنما هو مخاطبة لجميعهم، وأنه بتقدير حضورهم. وإذا قدرت «يأيها الرسل» مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فَلَق اتصالَ هذه الآية واتصالَ قوله: «فتقطعوا». أما أنّ قوله: { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ } وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون فيه بالمعنى؛ فيحسن بعد ذلك اتصال. { فَتَقَطَّعُوۤاْ } أي افترقوا، يعني الأمم، أي جعلوا دينهم أدياناً بعد ما أمروا بالاجتماع. ثم ذكر تعالى أن كلاً منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال.

الرابعة: هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "ألاَ إنّ مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة" الحديث. خرّجه أبو داود، ورواه الترمذي وزاد: قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" خرّجه من حديث عبد الله بن عمرو. وهذا يبيّن أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث إنما هو في أصول الدين وقواعده، لأنه قد أطلق عليها مِلَلاً، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار. ومثل هذا لا يقال في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب النار؛ قال الله تعالى: { { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [المائدة: 48].

قوله تعالى: { زُبُراً } يعني كتباً وضعوها وضلالات ألّفوها؛ قاله ابن زيد. وقيل: إنهم فرّقوا الكتب فاتبعت فرقةٌ الصحفَ وفرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل، ثم حرف الكلّ وبدّل؛ قاله قتادة. وقيل: أخذ كل فريق منهم كتاباً آمن به وكفر بما سواه. و«زُبُراً» بضم الباء قراءة نافع، جمع زبور. والأعمش وأبو عمرو بخلافٍ عنه «زُبَراً» بفتح الباء، أي قطعاً كقطع الحديد؛ كقوله تعالى: { { آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ } [الكهف: 96]. { كُلُّ حِزْبٍ } أي فريق ومِلّة. { بِمَا لَدَيْهِمْ } أي عندهم من الدين. { فَرِحُونَ } أي معجبون به. وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمداً صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلاً بقوله: { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم؛ فلكل شيء وقت. والغَمرة في اللغة ما يَغْمُرك ويعلوك؛ وأصله الستر؛ ومنه الغِمْر الحقد لأنه يغطّي القلب. والغَمْر الماء الكثير لأنه يغطي الأرض. وغَمْرُ الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء؛ قال:

غَمْرُ الرداء إذا تبسّم ضاحكاغَلِقتْ لضَحْكته رِقابُ المالِ

المراد هنا الحَيْرة والغفلة والضلالة. ودخل فلان في غمار الناس، أي في زحمتهم. وقوله تعالى: { حَتَّىٰ حِينٍ } قال مجاهد: حتى الموت، فهو تهديد لا توقيت؛ كما يقال: سيأتي لك يوم.