التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ
٣٥
-النور

الجامع لاحكام القرآن

النور في كلام العرب: الأضواء المدركة بالبصر. واستعمل مجازاً فيما صح من المعاني ولاح؛ فيقال منه: كلام له نور. ومنه الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر:

نسب كأن عليه من شمس الضحانوراً ومن فلق الصباح عمودا

والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره. قال:

فـإنـك شـمـس والمــلوك كـواكـبٌ

وقال آخر:

هلا خصصت من البلاد بمقصدقمرَ القبائل خالدَ بن يزيد

وقال آخر:

إذا سار عبد الله من مَرْوَ ليلةًفقد سار منها نورها وجمالها

فيجوز أن يقال: لله تعالى نور، من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء، ونورُ جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه صدورها، وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جلّ وتعالى عما يقول الظالمون عُلُوًّا كبيراً. وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من الْمُجَسِّمة: هو نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام. وهذا كله محال على الله تعالى عقلاً ونقلاً على ما يعرف في موضعه من علم الكلام. ثم إن قولهم متناقض؛ فإن قولهم جسم أو نور حكمٌ عليه بحقيقة ذلك، وقولهم لا كالأنوار ولا كالأجسام نفيٌ لما أثبتوه من الجسمِيّة والنور؛ وذلك متناقض، وتحقيقه في علم الكلام. والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه الآية، "وقوله عليه السلام إذا قام من الليل يتهجّد: اللَّهُمَّ لك الحمد أنت نور السموات والأرض" . "وقال عليه السلام وقد سئل: هل رأيت ربّك؟ فقال: رأيت نوراً" . إلى غير ذلك من الأحاديث.

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. فالكلام على التقريب للذهن؛ كما يقال: الملِك نور أهل البلد؛ أي به قِوام أمرها وصلاحُ جملتها؛ لجَرَيان أموره على سنن السّداد. فهو في الملِك مجاز، وهو في صفة الله حقيقة محضة؛ إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نوراً هادياً؛ لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضّوْء ظهور المبصَرات، تبارك الله تعالى لا ربّ غيره. قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما. قال ابن عرفة: أي منوّر السموات والأرض. وكذا قال الضحاك والقُرَظي. كما يقولون: فلان غياثنا؛ أي مغيثنا. وفلان زادي، أي مزوّدي. قال جرير:

وأنت لنا نور وغَيْث وعِصْمةونبْتٌ لمن يرجو نَداك ورِيقُ

أي ذو وَرَق. وقال مجاهد: مدبّر الأمور في السموات والأرض. أُبَيّ بن كعب والحسن وأبو العاليَة: مزيّن السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزيّنُ الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقال ابن عباس وأنس: المعنى الله هادي أهل السموات والأرض. والأول أعمّ للمعاني وأصح مع التأويل.

قوله تعالى: { مَثَلُ نُورِهِ } أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن؛ والدلائل تسمى نوراً. وقد سمَّى الله تعالى كتابه نُوراً فقال: { { وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [النساء: 174] وسمى نبيّه نوراً فقال: { { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [المائدة: 15]. وهذا لأن الكتاب يهدي ويبيّن، وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبيِّنها وواضعها. وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثّل به، بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أن يريد مَثَل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس؛ فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر. والمِشْكاة: الكَوّة في الحائط غير النافذة؛ قاله ابن جبير وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والمصباحُ فيها أكثر إنارة منه في غيرها، وأصلها الوعاء يجعل فيه الشيء. والمشكاة وعاء من أَدَم كالدَّلْو يبرّد فيها الماء؛ وهو على وزن مِفعلة كالمِقراة والمِصْفاة. قال الشاعر:

كأن عَيْنيه مِشكاتان في حجرقِيضا اقتياضا بأطراف المناقير

وقيل: المِشْكاة عمود القِنديل الذي فيه الفتِيلة. وقال مجاهد: هي القنديل. وقال «في زجاجة» لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج. والمصباح: الفتيل بناره. { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي في الإنارة والضوء. وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك. وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور. قال الضحاك: الكوكب الدُّرِّي هو الزُّهرة.

قوله تعالى: { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي من زيت شجرة، فحذف المضاف. والمباركة المُنَمّاة؛ والزيتون من أعظم الثمار نَماء، والرمان كذلك. والعيان يقتضي ذلك. وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أميّة بن عبد شمس:

ليتَ شِعْرِي مسافِرَ بن أبي عمــرو وليتٌ يقولها المحزونُ
بورك الميْت الغريب كما بُورِك نبعُ الرمان والزيتونُ

وقيل: من بركتهما أن أغصانهما تُورق من أسفلها إلى أعلاها. وقال ابن عباس: في الزيتون منافع، يُسرج بالزيت، وهو إدام ودِهان ودِباغ، ووَقود يوقد بحطبه وتُفْله، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة، حتى الرَّماد يغسل به الإِبْرِيسِم. وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأوّل شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبيًّا بالبركة؛ منهم إبراهيم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ بارك في الزيت والزيتون" . قاله مرتين.

قوله تعالى: { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } اختلف العلماء في قوله تعالى: { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم: الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شَرَقت ولا تصيبها إذا غَرَبت؛ لأن لها ستراً. والغربِيّة عكسها؛ أي أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شيء وهو أجود لزَيْتِها، فليست خالصة للشرق فتسمَّى شرقية ولا للغرب فتسمَّى غربِيّة، بل هي شرقية غربية. وقال الطبري عن ابن عباس: إنها شجرة في دَوْحة قد أحاطت بها؛ فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب. قال ابن عطية: وهذا قول لا يصح عن ابن عباس؛ لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مَثَل ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إمّا شرقية وإمّا غربية. الثعلبيّ: وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا؛ لأنها بدل من الشجرة، فقال: «زيتونة». وقال ابن زيد: إنها من شجر الشأم؛ فإن شجر الشأم لا شرقيّ ولا غربيّ، وشجر الشأم هو أفضل الشجر، وهي الأرض المباركة. و«شرقيةٍ» نعت لـ«ـزيتونَةٍ» و«لا» ليست تحول بين النعت والمنعوت، «ولا غربية» عطف عليه.

قوله تعالى: { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } مبالغة في حسنه وصفائه وجودته. { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } أي اجتمع في المِشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار لذلك نور على نور. واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون؛ فكذلك براهين الله تعالى واضحة، وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه؛ كإرساله الرسل وإنزاله الكتب، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر. ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده، وذكر تفضله للعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان. وقرأ عبد الله بن عَيّاش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ «اللَّهُ نَوّر» بفتح النون والواو المشدّدة. واختلف المتأوّلون في عود الضمير في «نوره» على من يعود؛ فقال كعب الأحبار وابن جُبير: هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي مَثَل نور محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن الأنبارِيّ: «الله نور السموات والأرض» وقف حسن، ثم تبتدىء «مَثَلُ نورِه كمشكاة فيها مِصبَاحٌ» على معنى نور محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أُبَيّ بن كعب وابن جبير أيضاً والضحاك: هو عائد على المؤمنين. وفي قراءة أُبَيّ «مثل نور المؤمنين». وروي أن في قراءته «مثل نور المؤمن». وروي أن فيها «مثل نور من آمن به». وقال الحسن: هو عائد على القرآن والإيمان. قال مكِّيّ: وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله: «والأرض». قال ابن عطية: وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثَّل؛ فعلى من قال: الممثّل به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول كَعْب الحبر فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوّة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحي، والملائكة رسل الله إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمّنها الوَحْي. ومن قال: الممثّل به المؤمن، وهو قول أُبَيّ؛ فالمشكاة صدره، والمصباح الإيمان والعلم، والزجاجة قلبه، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمّنها. قال أُبَيّ: فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحيّ يمشي في قبور الأموات. ومن قال: إن الممثّل به هو القرآن والإيمان؛ فتقدير الكلام: مثل نوره الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة؛ أي كهذه الجملة. وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين؛ لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان. وقالت طائفة: الضمير في «نوره» عائد على الله تعالى. وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبِيّ والماوَرْدِيّ والمهدوِيّ، وقد تقدّم معناه. ولا يوقف على هذا القول على «الأرض». قال المهدوِيّ: الهاء لله عز وجل؛ والتقدير: الله هادي أهل السموات والأرض، مَثَل هداه في قلوب المؤمنين كمِشْكاة؛ وروي ذلك عن ابن عباس. وكذلك قال زيد بن أسلم، والحسن: إن الهاء لله عز وجل. وكان أُبَيّ وابن مسعود يقرأانها «مثلُ نُوره في قلب المؤمن كمشكاة». قال محمد بن علي الترمذي: فأما غيرهما فلم يقرأها في التنزيل هكذا، وقد وافقهما في التأويل أن ذلك نوره في قلب المؤمن، وتصديقه في آية أخرى يقول: { { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر: 22]. واعتلّ الأوّلون بأن قالوا: لا يجوز أن يكون الهاء لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل لا حدّ لنوره. وأمال الكسائيّ فيما روى عنه أبو عمر الدُّورِيّ الألف من «مشكاة» وكَسر الكاف التي قبلها. وقرأ نصر بن عاصم «زَجاجة» بفتح الزاي و«الزَّجاجة» كذلك، وهي لغة. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «دُرّي» بضم الدال وشد الياء، ولهذه القراءة وجهان: إمّا أن ينسب الكوكب إلى الدُّرّ لبياضه وصفائه، وإمّا أن يكون أصله دُرِّيء مهموز، فُعِّيل من الدَّرء وهو الدفع، وخُفّفت الهمزة. ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها: الدَّراري، بغير همز؛ فلعلّهم خفّفوا الهمزة، والأصل من الدَّرء الذي هو الدفع. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «دُرّيء» بالهمز والمد، وهو فُعِّيل من الدَّرء؛ بمعنى أنها يدفع بعضُها بعضاً. وقرأ الكسائي وأبو عمرو «دِرّيء» بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع؛ مثل السِّكّير والفِسِّيق. قال سيبويه: أي يدفع بعض ضوئه بعضاً من لمعانه. قال النحاس: وضعّف أبو عبيد قراءة أبي عمرو والكسائي تضعيفاً شديداً، لأنه تأوّلها من درأت أي دفعت؛ أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق. وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب؛ ألا ترى أنه لا يقال جاءني إنسان من بني آدم. ولا ينبغي أن يتأول لمثل أبي عمرو والكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك: كوكب مندفع بالنور؛ كما يقال: اندرأ الحريق أي اندفع. وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى سعيد بن مَسْعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا. وقال الجوهري في الصّحاح: ودرأ علينا فلان يدرأ دروءاً أي طلع مفاجأة. ومنه كوكب دِرّيء، على فِعّيل؛ مثل سِكير وخِمير؛ لشدّة توقده وتلألئه. وقد درأ الكوكب دروءاً. وقال أبو عمرو بن العلاء: سألت رجلاً من سعد بن بكر من أهل ذات عِرْق فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تُسمُّونه؟ قال: الدِّرّيء، وكان من أفصح الناس. قال النحاس: فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعاً قالوا: هي لحن لا تجوز، لأنه ليس في كلام العرب اسم على فُعِّيل. وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فُعِّيل وإنما هو فُعُّول، مثل سُبُّوح، أبدل من الواو ياء؛ كما قالوا: عُتيٌّ. قال أبو جعفر النحاس: وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشدّه؛ لأن هذا لا يجوز ألْبَتَّة، ولو جاز ما قال لقيل في سُبّوح سُبّيح. وهذا لا يقوله أحد، وليس عُتيّ من هذا، والفرق بينهما واضح بَيّن؛ لأنه ليس يخلو عُتِي من إحدى جهتين: إما أن يكون جمع عاتٍ فيكون البدل فيه لازماً، لأن الجمع باب تغيير، والواو لا تكون طرفاً في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصِين أبدل من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء. وإن كان عُتِيّ واحداً كان بالواو أوْلى، وجاز قلبها لأنها طرف، والواو في فُعول ليست طرفاً فلا يجوز قلبها. قال الجوهري: قال أبو عبيد إن ضممت الدال قلت دُرِّيّ، يكون منسوباً إلى الدر، على فُعْلِيّ ولم تهمزه لأنه ليس في كلام العرب فُعّيل. ومن همزه من القراء فإنما أراد فُعُّولاً مثل سُبّوح فاستثقل لكثرة الضمّات فردّ بعضه إلى الكسر. وحكى الأخفش عن بعضهم «دَرِّيء» من درأتُه، وهمزها وجعلها على فَعِّيل مفتوحة الأوّل. قال: وذلك من تلألئه. قال الثعلبِيّ: وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رَجاء «دَرّيء» بفتح الدال مهموزاً. قال أبو حاتم: هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فَعّيل؛ فإن صح عنهما فهما حجة. { يُوقَدُ } قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص «يُوقد» بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرأ الحسن والسُّلَمِيّ وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء البصري «تَوَقَّد» مفتوحة الحروف كلها مشدّدة القاف، واختارها أبو حاتم وأبو عبيد. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان؛ لأنهما جميعاً للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف؛ لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. و«تَوَقَّدَ» فعل ماض من تَوَقّد يتوقّد، ويُوقَد فعل مستقبل من أوقِد يُوقَد. وقرأ نصر بن عاصم «تَوَقَّدَ» والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدل عليها. وقرأ الكوفيون «تُوقَد» بالتاء يعنون الزجاجة. فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة. { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } تقدم القول فيه. { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } على تأنيث النار. وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السُّدِّي روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ «ولَوْ لم يمسسه نار» بالياء. قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل المؤنث عنده. وقال ابن عمر: المشكاة جَوْف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى في قلبه يوقد من شجرة مباركة؛ أي أن أصله من إبراهيم وهو شجرته؛ فأوقد الله تعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم النور كما جعله في قلب إبراهيم عليه السلام. قال محمد بن كعب: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلوات الله عليهم أجمعين؛ سمّاه الله تعالى مصباحاً كما سماه سراجاً فقال: { { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب: 46] يوقد من شجرة مباركة وهي آدم عليه السلام، بُورك في نسله وكَثُر منه الأنبياء والأولياء. وقيل: هي إبراهيم عليه السلام، سمّاه الله تعالى مباركاً لأن أكثر الأنبياء كانوا من صُلْبه. { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي لم يكن يهودِيًّا ولا نصرانياً وإنما كان حَنِيفاً مسلماً. وإنما قال ذلك لأن اليهود تصلِّي قِبَل المغرب والنصارى تصلِّي قبل المشرق. { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ } أي يكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن أوحى الله تعالى إليه. { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } نَبِيٌّ من نَسْل نبيّ. وقال الضحاك: شبه عبد المطلب بالمِشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالمصباح كان في قلبهما، فورث النبوّة من إبراهيم. { مِن شَجَرَةٍ } أي شجرة التُّقَى والرضوان وعشيرة الهدى والإيمان، شجرة أصلها نبوّة، وفرعها مروءة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: ومن غريب الأمر أن بعض الفقهاء قال إن هذا مَثَل ضربه الله تعالى لإبراهيم ومحمد ولعبد المطلب وابنه عبد الله؛ فالمشكاة هي الكوّة بلغة الحبشة، فشبّه عبد المطلب بالمشكاة فيها القِنديل وهو الزجاجة، وشبّه عبد الله بالقِنديل وهو الزجاجة؛ ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما، وكأنه كوكب دُرِّيٌّ وهو المشتَرِي «يوقد من شجرة مباركة» يعني إرْث النبوّة من إبراهيم عليه السلام هو الشجرة المباركة، يعني حنِيفِيّة لا شرقيّة ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية. «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» يقول: يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحَى إليه. «نُورٌ على نور» إبراهيم ثم محمد صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: وهذا كله عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه.

قلت: وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأوّل، وأن هذا مَثَل ضربه الله تعالى لنوره، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلاً تنبيهاً لخلقه إلا ببعض خلقه، لأن الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم، ولولا ذلك ما عَرف الله إلاّ الله وحده، قاله ابن العربي. قال ابن عباس: هذا مَثَل نور الله وهُداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن مسّته النار زاد ضوؤه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم زاده هُدًى على هدًى ونوراً عل نور؛ كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة: «هذا رَبِّي»، من قبل أن يخبره أحد أن له رَبًّا؛ فلما أخبره الله أنه ربُّه زاد هُدًى، فـقال له رَبُّه: { { قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة: 131]. ومن قال إن هذا مَثَل للقرآن في قلب المؤمن قال: كما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص فكذلك القرآن يُهتدَى به ولا ينقص؛ فالمصباح القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمِشْكاة لسانه وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي. { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } تكاد حجج القرآن تتّضِح ولو لم يقرأ. { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } يعني أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نوراً على نور. ثم أخبر أن هذا النور المذكور عزيز، وأنه لا يناله إلا من أراد الله هداه فقال: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } أي يبيِّن الأشباه تقريباً إلى الأفهام. { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } أي بالمهدِيّ والضّال. وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد، كيف يَخْلُص نور الله تعالى من دون السماء؛ فضرب الله تعالى ذلك مثلا لنوره.