التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
٢٠
-الفرقان

الجامع لاحكام القرآن

فيه تسع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ }. وقال ابن عباس: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول اللهٰ الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ } أي يبتغون المعايش في الدنيا.

الثانية: قوله تعالى: { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ } إذا دخلت اللام لم يكن في «إن» إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر؛ لأنها مستأنفة. هذا قول جميع النحويين. قال النحاس: إلا أن عليّ بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال: يجوز في «إنّ» هذه الفتح وإن كان بعدها اللام؛ وأحسبه وهْما منه. قال أبو إسحاق الزجاج: وفي الكلام حذف؛ والمعنى وما أرسلنا قلبك رسلاً إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلاً، لأن في قوله: { مِن المرسلِينَ } ما يدل عليه. فالموصوف محذوف عند الزجاج. ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء. قال الفراء: والمحذوف { مَن } والمعنى إلا مَنْ إنهم ليأكلون الطعام. وشبّهه بقوله: { { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164]، وقوله: { { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71] أي ما منكم إلا من هو واردها. وهذا قول الكسائيّ أيضاً. وتقول العرب: ما بعثت إليك من الناس إلا مَن إنه ليطيعك. فقولك: إنه ليطيعك صلة من. قال الزجاج: هذا خطأ؛ لأن من موصولة فلا يجوز حذفها. وقال أهل المعاني: المعنى؛ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون؛ دليله قوله تعالى: { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [فصلت: 43]. وقال ابن الأنباريّ: كسرت { إِنَّهُمْ } بعد { إلا } للاستئناف بإضمار واو. أي إلا وإنهم. وذهبت فرقة إلى أن قوله: { لَيَاْكُلُونَ الطَعَاَمَ } كناية عن الحدث.

قلت: وهذا بليغ في معناه، ومثله { { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } [المائدة: 75]. { وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ } قرأ الجمهور { يمْشُونَ } بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرأ عليّ وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يُدْعَون إلى المشي ويحملون عليه. وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلمَيّ بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشدّدة، وهي بمعنى يَمْشُونَ؛ قال الشاعر:

ومَشَّى بأعطان المَبَاءة وابتغىقلائصَ منها صعبةٌ ورَكُوبُ

وقال كعب بن زهير:

منه تظل سِباعُ الجوِّ ضامِزةًولا تُمَشِّي بوادِيه الأَراجيلُ
بمعنى تمْشي.

الثالثة: هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول: قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء؛ فقلت مجيباً له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغِنياء، والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق: { { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [الأنبياء: 80]. وقال: { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ } قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون. وقال عليه الصلاة والسلام: "جُعِل رزقي تحت ظل رُمْحي" وقال تعالى: { { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } [الأنفال: 69] وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون؛ أتراهم ضعفاء! بل هم كانوا والله الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدَى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء. قال: إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا؛ وبيان ذلك أصحابُ الصُّفَّة.

قلت: لو كان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان؛ كما ثبت في القرآن { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] وقال: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 159] الآية. وهذا من البينات والهدى. وأما أصحاب الصُّفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا وصفهم البخاريّ وغيره. ثم لما افتتَح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمّروا، وبالأسباب أُمِروا. ثم إن هذا القول يدلّ على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم أُيِّدوا بالملائكة وثُبّتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر؛ نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين؛ وإلا كان يكون قوله الحق: { { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ } [الأنفال: 60] ـ الآية ـ مقصوراً على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك. وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكِليم { { ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ } [الشعراء: 63] وقد كان قادراً على فلق البحر دون ضرب عصا. وكذلك مريم عليها السلام { { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } [مريم: 25] وقد كان قادراً على سقوط الرطب دون هزّ ولا تعب؛ ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطَف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره، ولا تهدّ لذلك القواعد الكلية والأمور الجملية. هيهات هيهات! لا يقال فقد قال الله تعالى: { { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22] فإنا نقول: صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل؛ بدليل؛ قوله: { { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً } [غافر: 13] وقال: { { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ } [قۤ: 9] ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباقَ الخبز ولا جِفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك؛ وهو معنى قوله عليه السلام: "اطلبوا الرزق في خبايا الأرض" أي بالحرث والحفر والغرس. وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقاً لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب. وقال عليه السلام: "لأنّ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحداً أعطاه أو منعه" وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب. ولو قُدِّر رجل بالجبال منقطعاً عن الناس لما كان له بَد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به؛ وهو معنى قوله عليه السلام: "لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكّله لرزقتم كما تُرزق الطير تغدو خِماصا وتروح بِطانا" فغدوّها ورواحها سبب؛ فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم. ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى { { وَتَزَوَّدُواْ } [البقرة:197]. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقاً. والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يُلّم شعثه ويجمع عليه أربَه؛ ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر. وهذا هو الحق. سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال: إني أريد الحج على قدم التوكل. فقال: اخرج وحدك؛ فقال: لا، إلاّ مع الناس. فقال له: أنت إذن متكل على أجربتهم. وقد أتينا على هذا في كتاب «قمع الحرص بالزهد والقناعة وردّ ذلّ السؤال بالكتب والشفاعة».

الرابعة: خرّج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" . وخرّج البزّار عن سلمان الفارسيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكونن إن استطعتْ أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته" . أخرجه أبو بكر البرْقانيّ مسنداً عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ ـ من رواية عاصم ـ عن أبي عثمان النهدِيّ عن سلمان قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكن أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرّخ" . ففي هذه الأحاديث ما يدلّ على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان. وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر: كُره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدِّين تنزيهاً لهم عن البقاع التي يُعصى الله فيها. فحق على من ابتلاَه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وأنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصَر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.

الخامسة: تشبيه النبيّ صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن؛ وذلك أن المعركة موضع القتال، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضاً. فشبّه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة، واختلاَط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها.

السادسة: قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون: لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة؛ ومن الأحاديث الموضوعة: "الأكل في السوق دناءة" .

قلت: ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو؛ فإن ذلك خالٍ عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن؛ إذ ليس بذلك من حاجتهن. وأما غيرهما من الأسواق فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيسارِيات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا. نعوذ بالله من سخطه.

السابعة: خرّج أبو داود الطيالسيّ في مسنده حدّثنا حماد بن زيد قال حدّثنا عمرو ابن دِينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: "من دخل سوقاً من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيـي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألفَ ألفِ سيئة وبنى له قصراً في الجنة" خرّجه الترمذيّ أيضاً وزاد بعده "ومحا عنه ألف ألف سيئة: ورفع له ألف ألف درجةٍ وبنى له بيتاً في الجنة" . وقال: هذا حديث غريب. قال ابن العربيّ: وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين.

الثامنة: قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أي إن الدنيا دار بلاء وامتحَان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغنّي. ومعنى هذا أن كل واحد مختبَر بصاحبه؛ فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحَن بالغنّي، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق؛ كما قال الضحاك في معنى { أَتَصْبِرُونَ }: أي على الحق. وأصحاب البلايا يقولون: لِمَ لم نعاف؟ والأعمى يقول: لِمَ لَمْ أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة. والرسول المخصوص بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره. وكذلك العلماء وحكام العدل. ألا ترى إلى قولهم: { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]. فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر، وذاك عن الضجر. { أَتَصْبِرُونَ } محذوف الجواب، يعني أم لا تصبرون. فيقتضي جواباً كما قاله المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصياً في مراكب ومناكب، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية { أَتَصْبِرُونَ } فقال: بلى ربنا! نصبِر ونحتسب. وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابراً عليه، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر. وعن أبي الدرداء أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ويل للعالِم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة وهو قوله: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ }" أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعقبة بن أبي مُعَيط وعُتْبة بن ربيعة والنضر بن الحرث حين رأوا أبا ذرّ وعبد الله بن مسعود، وعماراً وبلالاً وصُهيباً وعامر بن فُهَيرة، وسالماً مولى أبي حُذَيفة ومِهْجَعا مولى عمر بن الخطاب وجبراً مولى الحَضْرمي، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين: { أَتَصْبِرُونَ } على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر؛ فالتوقيف بـ{ أَتَصْبِرُونَ } خاص للمؤمنين المحققين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: { { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ } [المؤمنون: 111].

التاسعة: قوله تعالى: { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي بكل امرىء وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدّى ما عليه من الحق ومن لا يؤدّي. وقيل: { أَتَصْبِرُونَ } أي اصبروا. مثل { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91] أي انتهوا؛ فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر.