التفاسير

< >
عرض

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
١٧
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
١٨
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
١٩
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ
٢٠
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢١
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
٢٢
-الشعراء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا؛ إنا ذوو رسالة رب العالمين. قال الهذليّ:

أَلِكْنِي إليها وخَيرُ الرَّسُولِ أَعْلَمُهُمْ بنَوَاحِي الخَبَرَ

ألكني إليها معناه أرسلني. وقال آخر:

لقد كَذَبَ الواشون ما بُحْتُ عندهمْبِسِرٍّ ولا أَرسلتُهمْ برسولِ

آخر:

أَلاَ أَبْلغْ بني عمرو رسولاًبأنّي عن فُتَاحَتِكُمْ غنيُّ

وقال العباس بن مرادس:

أَلاَ مَن مُبلِغٌ عنّي خُفَافَارسولاً بيتُ أهلِك مُنْتَهَاها

يعني رسالة فلذلك أنَّثها. قال أبو عبيد: ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع؛ فتقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي. ومنه قوله تعالى: { { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ } [الشعراء: 77]. وقيل: معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين. { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي أطلقهم وخلّ سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم؛ وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفاً. فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البوّاب على فرعون فقال: هاهنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال فرعون: ايذن له لعلنا نضحك منه؛ فدخلا عليه وأديا الرسالة. وروى وهب وغيره: أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعاً من أسد ونمور وفهودٍ يتفرج عليها، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما؟ قالا: { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فعرف موسى لأنه نشأ في بيته؛ فـ{ ـقَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } على جهة المنّ عليه والاحتقار. أي ربيناك صغيراً ولم نقتلك من جملة من قتلنا { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } فمتى كان هذا الذي تدعيه. ثم قرره بقتل القبطي بقوله: { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ } والفَعْلة بفتح الفاء المرة من الفعل. وقرأ الشعبي: { فِعلتك } بكسر الفاء والفتح أولى؛ لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك. وقال الشاعر:

كأنّ مِشيتَها من بيت جارتِهامرُّ السحابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ

ويقال: كان ذلك أيام الرِّدة والرَّدة. { وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } قال الضحاك: أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله. وقيل: أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك؛ قاله ابن زيد. الحسن: { مِن الْكَافِرِينَ } في أني إلهك. السّدي: { مِن الْكَافِرِينَ } بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه. وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيّاً أحد عشر عاماً غير أشهر. فـ{ ـقَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً } أي فعلت تلك الفعلة يريد قتل القبطي { وَأَنَاْ } إذ ذاك { مِنَ ٱلضَّالِّينَ } أي من الجاهلين؛ فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل. وكذا قال مجاهد؛ { مِنَ الضَّالِّينَ } من الجاهلين. ابن زيد: من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل. وفي مصحف عبد الله { مِن الجاهِلِين } ويقال لمن جهل شيئاً ضل عنه. وقيل: { وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } من الناسين؛ قاله أبو عبيدة. وقيل: { وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } عن النبوّة ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. وبيّن بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوّة والحلم على الناس، وأن القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوّة.

قوله تعالى: { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } أي خرجت من بينكم إلى مَدْين كما في سورة «القصص»: { { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [القصص: 21] وذلك حين القتل. { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً } يعني النبوّة؛ عن السّدي وغيره. الزجاج: تعليم التوراة التي فيها حكم الله. وقيل علماً وفهماً. { وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }.

قوله تعالى: { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } اختلف الناس في معنى هذا الكلام؛ فقال السّدي والطّبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة؛ كأنه يقول: نعمٰ وتربيتك نعمة عليّ من حيث عبّدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وقيل: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار؛ أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليداً وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟ٰ أي ليست بنعمة؛ لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي؛ فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص؟ٰ قال معناه قتادة وغيره. وقيل: فيه تقدير استفهام؛ أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش والفراء أيضاً وأنكره النحاس وغيره. قال النحاس: وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام أم؛ كما قال الشاعر:

تَـرُوحُ مـن الـحـيّ أم تَبْـتَـكِـر

ولا أعلم بين النحويين اختلافاً في هذا إلا شيئاً قاله الفراء. قال: يجوز حذف ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكى تُرَى زيداً منطلقاً؟ بمعنى أترى. وكان علي بن سليمان يقول في هذا: إنما أخذه من ألفاظ العامة. قال الثعلبيّ: قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه أو تلك نعمة؟ على طريق الاستفهام؛ كقوله: { هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 78] { فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء:34] قال الشاعر:

رَفَوْنِي وقالوا يا خُوَيلدُ لا تُرَعْفقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ هُمُ هُمُ

وأنشد الغزنوي شاهداً على ترك الألف قولهم:

لم أنس يوم الرحيل وقفتَهاوجفنها من دموعها شَرِقُ
وقولَها والركابُ واقفةٌتَركتني هكذا وتَنطلقُ

قلت: ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم أم خلاف قول النحاس. وقال الضحاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام؛ والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي؛ فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به. وقيل: معناه كيف تمنّ بالتربية وقد أهنت قومي؟ ومن أهين قومه ذل. و{ أَنْ عَبَّدْتَ } في موضع رفع على البدل من { نِعْمَة } ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى: لأن عبدت بني إسرائيل؛ أي اتخذتهم عبيداً. يقال: عبدته وأعبدته بمعنى؛ قاله الفراء وأنشد:

عَلاَمَ يُعبِدُنِي قومي وقد كَثُرَتفيهم أَباعِرُ ما شاؤوا وعِبْدانُ