التفاسير

< >
عرض

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ
٨٣
وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ
٨٤
وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ
٨٥
وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ
٨٦
وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ
٨٧
يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ
٨٨
إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
٨٩
-الشعراء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } { حُكْماً } معرفة بك وبحدودك وأحكامك؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل: فهماً وعلماً؛ وهو راجع إلى الأوّل. وقال الكلبي: نبوّة ورسالة إلى الخلق. { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } أي بالنبيين من قبلي في الدرجة. وقال ابن عباس: بأهل الجنة؛ وهو تأكيد قوله: { هَبْ لِي حكماً }.

قوله تعالى: { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } قال ابن عباس: هو اجتماع الأمم عليه. وقال مجاهد: هو الثناء الحسن. قال ابن عطية: هو الثناء وخلد المكانة بإجماع المفسرين؛ وكذلك أجاب الله دعوته، وكل أمة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مكي: وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق؛ فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عطية: وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة؛ فإن زيادة الثواب مطلوبة في حق كل أحد.

قلت: وقد فعل الله ذلك إذ ليس أحد يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلي على إبراهيم وخاصة في الصلوات، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات وأفضل الدرجات. والصلاة دعاء بالرحمة: والمراد باللسان القول، وأصله جارحة الكلام. قال القتبي: وموضع اللسان موضع القول على الاستعارة، وقد تكني العرب بها عن الكلمة. قال الأعشى:

إِنِّي أتَتْنِي لسانٌ لا أُسَرُّ بِهامِن عَلْوُ لا عجَبٌ منها ولا سَخَرُ

قال الجوهري: يروى مِن عَلو بضم الواو وفتحها وكسرها. أي أتاني خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة. وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر. روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل: { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً ويرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [طه: 39] وقال: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً } [مريم: 96] أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبّه تعالى بقوله: { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. الليث بن سليمان: إذ هي الحياة الثانية. قيل:

قد مات قومٌ وهُمْ في النّاس أحْيَاءُ

قال ابن العربي: قال المحققون من شيوخ الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" (الحديث) وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطاً يكتب له عمله إلى يوم القيامة. وقد بيناه في آخر «آل عمران» والحمد لله.

قوله تعالى: { وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ } دعاء بالجنة وبمن يرثها، وهو يرد قول بعضهم: لا أسأل جنة ولا ناراً.

قوله تعالى: { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } كان أبوه وعده في الظاهر أن يؤمن به فاستغفر له لهذا، فلما بان أنه لا يفي بما قال تبرأ منه. وقد تقدّم هذا المعنى. { إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } أي المشركين. { وكان } زائدة. { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة" والغبرة هي القترة. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين" انفرد بهما البخاريرحمه الله .

قوله تعالى: { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } { يَوْمَ } بدل من { يوم } الأوّل. أي يوم لا ينفع مال ولا بنون أحداً. والمراد بقوله: { وَلاَ بَنُونَ } الأعوان؛ لأن الابن إذا لم ينفع فغيره متى ينفع؟ وقيل: ذكر البنين لأنه جرى ذكر والد إبراهيم، أي لم ينفعه إبراهيم. { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } هو استثناء من الكافرين؛ أي لا ينفعه ماله ولا بنوه. وقيل: هو استثناء من غير الجنس، أي لكن { مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ينفعه لسلامة قلبه. وخص القلب بالذكر؛ لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح. وقد تقدّم في أوّل «البقرة». واختلف في القلب السليم فقيل: من الشك والشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد؛ قاله قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض؛ قال الله تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [البقرة: 10] وقال أبو عثمان السيَّاري: هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة. وقال الحسن: سليم من آفة المال والبنين. وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ؛ فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله. وقال الضحاك: السليم الخالص.

قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن، أي الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتصف بالأوصاف الجميلة؛ والله أعلم. وقد روي عن عروة أنه قال: يا بنيّ لا تكونوا لعّانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئاً قط، قال الله تعالى: { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وقال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. وفي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنَة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير" يريد ـ والله أعلم ـ أنها مثلها في أنها خالية من كل ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لهم بأمور الدنيا؛ كما روى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر أهل الجنة البُلْهُ" وهو حديث صحيح. أي البُلْه عن معاصي الله. قال الأزهري: الأبله هنا هو الذي طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه. وقال القتبي: البله هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس.