التفاسير

< >
عرض

أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٦٢
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٣
أَمَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦٤
-النمل

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود. وقال السديّ: الذي لا حول له ولا قوّة. وقال ذون النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله. وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس. وقال سهل بن عبد الله: هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعياً لم يكن له وسيلة من طاعة قدّمها. وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر؛ قال: إذاً فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. قال الشاعر:

وإنِّي لأدعُو الله والأمرُ ضَيِّقٌعليّ فما ينفَكُّ أن يَتفرّجَا
ورُبَّ أخٍ سُدَّتْ عليه وُجوهُهُأصاب لَها لَما دعا اللَّهَ مَخْرَجَا

الثانية: وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر: "اللهم رحمتك أرجو فلا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفة عين وأصلح لي شأني كلَّه لا إلٰه إلا أنت" .

الثالثة: ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه؛ والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى: { { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [يونس: 22] وقوله: { { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى: { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [العنكبوت: 65] فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه. وفي الحديث: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده" ذكره صاحب الشهاب؛ وهو حديث صحيح. وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: "واتَّق دعوةَ المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب" وفي كتاب الشهاب: "اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين" وهو صحيح أيضاً. وخرج الآجريِّ من حديث أبي ذَرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإني لا أردها ولو كانت من فم كافر" فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافراً، وكذلك إن كان فاجراً في دينه؛ ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته. وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له، أو اقتصاص منه، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل: { { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضاً } [الأنعام: 129] وأكد سرعة إجابتها بقوله: «تُحمل على الغمام» ومعناه والله أعلم أن الله عز وجل يوكِّل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام، فيعرجوا بها إلى السماء، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم، فيظهر منه معاونة المظلوم، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته، رحمة له. وفي هذا تحذير من الظلم جملة، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره؛ حيث قال على لسان نبيه في «صحيح مسلم» وغيره: "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا" الحديث. فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر؛ لأنه منقطع عن الأهل والوطن، منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته، فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجاء، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه، وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنَّته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته؛ وإياسه عن بِرِّ ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته.

قوله تعالى: { وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ } أي الضر. وقال الكلبي: الجور. { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ } أي سكانها يهلك قوماً وينشىء آخرين. وفي كتاب النقاش: أي ويجعل أولادكم خلفاً منكم. وقال الكلبي: خلفاً من الكفار ينزلون أرضهم، وطاعة الله بعد كفرهم. { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } على جهة التوبيخ؛ كأنه قال أمع الله ويلكم إله؛ فـ{ ـإله } مرفوع بـ{ ـمع }. ويجوز أن يكون مرفوعاً بإضمار أإله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه. والوقف على { مَعَ اللَّهِ } حسن. { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب: { يَذَّكَّرُونَ } بالياء على الخبر، كقوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } و{ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فأخبر فيما قبلها وبعدها؛ واختاره أبو حاتم. الباقون بالتاء خطاباً لقوله: { وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ }.

قوله تعالى: { أَمَّن يَهْدِيكُمْ } أي يرشدكم الطريق { فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } إذا سافرتم إلى البلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار. وقيل: وجعل مفاوز البر التي لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات؛ لأنه ليس لها علم يهتدى به. { وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي قدام المطر باتفاق أهل التأويل. { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } يفعل ذلك ويعينه عليه { تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } من دونه.

قوله تعالى: { أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ } كانوا يقرّون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة؛ أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه. { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } يخلق ويرزق ويبدىء ويعيد: { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } أي حجتكم أن لي شريكاً، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئاً من هذه الأشياء غير الله { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.