التفاسير

< >
عرض

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠
وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١١
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
١٢
فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٤
-القصص

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً } قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عمران الجوني وأبو عبيدة: { فَارِغاً } أي خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى. وقال الحسن أيضاً وابن إسحاق وابن زيد: { فَارِغاً } من الوحي إذ أوحي إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر { لاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي } والعهد الذي عهده إليها أن يردّه ويجعله من المرسلين؛ فقال لها الشيطان: يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فغرّقتيه أنت! ثم بلغها أن ولدها وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة: { فَارِغاً } من الغمّ والحزن لعلمها أنه لم يغرق؛ وقاله الأخفش أيضاً. وقال العلاء بن زياد: { فَارِغاً } نافراً. الكسائي: ناسياً ذاهلاً. وقيل: والهاً؛ رواه سعيد بن جبير. ابن القاسم عن مالك: هو ذهاب العقل؛ والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهشْ، ونحوه قوله تعالى: { { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [إبراهيم: 43] أي جُوف لا عقول لها كما تقدّم في سورة «إبراهيم». وذلك أن القلوب مراكز العقول؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: { { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ } [الحج: 46] ويدل عليها قراءة من قرأ: { فَزِعاً }. النحاس: أصح هذه الأقوال الأول، والذين قالوه أعلم بكتاب الله عز وجل؛ فإذا كان فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي. وقول أبي عبيدة فارغاً من الغم غلط قبيح؛ لأن بعده { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَبَطْنا عَلَىٰ قَلْبِهَا }. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كادت تقول واابناهٰ وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه ومحمد بن السَّمَيْقَع وأبو العالية وابن محيصن: { فَزِعاً } بالفاء والعين المهملة من الفزع؛ أي خائفة عليه أن يقتل. ابن عباس: «قَرِعاً» بالقاف والراء والعين المهملتين، وهي راجعة إلى قراءة الجماعة { فَارِغاً } ولذلك قيل للرأس الذي لا شعر عليه: أقرع؛ لفراغه من الشعر. وحكى قطرب أن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: { فِرْغاً } بالفاء والراء والغين المعجمة من غير ألف، وهو كقولك: هدراً وباطلاً؛ يقال: دماؤهم بينهم فِرْغ أي هدر؛ والمعنى بطل قلبها وذهب وبقيت لا قلب لها من شدّة ما ورد عليها. وفي قوله تعالى: { وَأَصْبَحَ } وجهان: أحدهما: أنها ألقته ليلاً فأصبح فؤادها في النهار فارغاً. الثاني: أنها ألقته نهاراً ومعنى: { أَصْبَحَ } أي صار؛ كما قال الشاعر:

مضى الخلفاء بالأمر الرشيدوأصبحت المدينة للوليد

{ إِن كَادَتْ } أي إنها كادت؛ فلما حذفت الكناية سكنت النون. فهي { إِن } المخففة ولذلك دخلت اللام في { لَتُبْدِي بِهِ } أي لتظهر أمره؛ من بدا يبدو إذا ظهر. قال ابن عباس: أي تصيح عند إلقائه: واابناه. السديّ: كادت تقول لما حُمِلت لإرضاعه وحضانته هو ابني. وقيل: إنه لما شَبَّ سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون؛ فشق عليها وضاق صدرها، وكادت تقول هو ابني. وقيل: الهاء في { به } عائدة إلى الوحي تقديره: إن كانت لتبدي بالوحي الذي أوحيناه إليها أن نردّه عليها. والأوّل أظهر. قال ابن مسعود: كادت تقول أنا أمه. وقال الفرّاء: إِن كادت لتبدي بإسمه لضيق صدرها. { لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } قال قتادة: بالإيمان. السدّي: بالعصمة. وقيل: بالصبر. والربط على القلب: إلهام الصبر. { لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي من المصدّقين بوعد الله حين قال لها: { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ }. وقال: { لَتُبْدِي بِهِ } ولم يقل: لتبديه؛ لأن حروف الصفات قد تزاد في الكلام؛ تقول: أخذت الحبل وبالحبل. وقيل: أي لتبدي القول به.

قوله تعالى: { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي قالت أم موسى لأخت موسى: اتبعي أثره حتى تعلمي خبره. واسمها مريم بنت عمران؛ وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام؛ ذكره السّهيلي والثّعلبي. وذكر الماورديّ عن الضحاك: أن اسمها كلثمة. وقال السهيلي: كلثوم؛ جاء ذلك في حديث رواه الزبير بن بكّار "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: أشعرت أن الله زوّجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون فقالت: الله أخبرك بهذا؟ فقال: نعم فقالت: بالرفاء والبنين" . { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } أي بعد؛ قاله مجاهد. ومنه الأجنبي.

قال الشاعر:

فَلاَ تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عن جَنَابةٍفإِنَّي امرؤٌ وسْطَ القِبابِ غَرِيبُ

وأصله عن مكان جنب. وقال ابن عباس: { عَنْ جُنُبٍ } أي عن جانب. وقرأ النعمان بن سالم: { عن جانِبٍ } أي عن ناحية. وقيل: عن شوق؛ وحكى أبو عمرو بن العلاء أنها لغة لجذام؛ يقولون: جنبت إليك أي اشتقت. وقيل: { عَنْ جُنُبٍ } أي عن مجانبة لها منه فلم يعرفوا أنها أمه بسبيل. وقال قتادة: جعلت تنظر إليه بناحية (كأنها) لا تريده، وكان يقرأ: { عَنْ جَنْبٍ } بفتح الجيم وإسكان النون. { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه.

قوله تعالى: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } أي منعناه من الارتضاع من قبل؛ أي من قبل مجيء أمه وأخته. و{ الْمَراضِعَ } جمع مُرْضِع. ومن قال مراضيع. فهو جمع مِرضاع، ومفعال يكون للتكثير، ولا تدخل الهاء فيه فرقاً بين المؤنث والمذكر لأنه ليس بجارٍ على الفعل، ولكن من قال مِرضاعة جاء بالهاء للمبالغة؛ كما يقال مِطرابة. قال ابن عباس: لا يؤتى بمرضع فيقبلها. وهذا تحريم منع لا تحريم شرع؛ قال امرؤ القيس:

جَالَتْ لِتصرعَني فقلت لها اقْصِرِيإنّي امرؤٌ صَرْعِي عليكِ حَرَامُ

أي ممتنع. فلما رأت أخته ذلك قالت: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } الآية. فقالوا لها عند قولها: { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } وما يدريك؟ لعلكِ تعرفين أهله؟ فقالت: لا؛ ولكنهم يحرصون على مَسرّة الملك، ويرغبون في ظِئْره. وقال السّدي وابن جُرَيج: قيل لها لما قالت: { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } قد عرفتِ أهل هذا الصبي فدلّينا عليهم؛ فقالت: أردت وهم للملك ناصحون. فدلتهم على أم موسى، فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبيّ على يد فرعون يعلّله شفقة عليه، وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها؛ فلما وجد الصبيّ ريح أمه قبل ثديها. وقال ابن زيد: استرابوها حين قالت ذلك فقالت: وهم للملك ناصحون. وقيل: إنها لما قالت: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْل بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } وكانوا يبالغون في طلب مرضعة يقبل ثديها فقالوا: من هي؟ فقالت أمي؛ فقيل: لها لبن؟ قالت: نعم! لبن هارون ـ وكان ولد في سنة لا يقتل فيها الصبيان ـ فقالوا صدقت والله. { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } أي فيهم شفقة ونصح؛ فروي أنه قيل لأم موسى حين ارتضع منها: كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبيّ إلا ارتضع مني. قال أبو عِمران الجوني: وكان فرعون يعطي أمّ موسى كل يوم ديناراً. قال الزمخشري: فإن قلت كيف حلّ لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها؟ قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربيّ تأخذه على وجه الاستباحة.

قوله تعالى: { فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ } أي رددناه وقد عطَف الله قلب العدوّ عليه، ووفينا لها بالوعد. { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي بولدها. { وَلاَ تَحْزَنَ } أي بفراق ولدها. { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي لتعلم وقوعه فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون؛ أي كانوا في غفلة عن التقدير وسِر القضاء وقيل: أي أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله في كل ما وعد حق.

قوله تعالى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } قد مضى الكلام في الأشد في «الأنعام». وقول ربيعة ومالك أنه الحُلُم أولى ما قيل فيه؛ لقوله تعالى: { { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } [النساء: 6] فإن ذلك أوّل الأشد، وأقصاه أربع وثلاثون سنة؛ وهو قول سفيان الثوري. و{ اسْتَوَى } قال ابن عباس: بلغ أربعين سنة. والحكم: الحكمة قبل النبوّة. وقيل: الفقه في الدين. وقد مضى بيانها في «البقرة» وغيرها. والعلم الفهم في قول السدي. وقيل: النبوّة. وقال مجاهد: الفقه. محمد ابن إسحاق: أي العلم بما في دينه ودين آبائه؛ وكان له تسعة من بني إسرائيل يسمعون منه، ويقتدون به، ويجتمعون إليه، وكان هذا قبل النبّوة. { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أي كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله؛ فرددنا ولدها إليها بالتحف والطرف وهي آمنة، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوّة؛ وكذلك نجزي كل محسن.