التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٥٤
وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ
٥٥
-القصص

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } ثبت في «صحيح مسلم» عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به واتبعه وصدّقه فله أجران وعبد مملوك أدّى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدّبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها فله أجران" قال الشعبي للخراساني: خذ هذا الحديث بغير شيء، فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة وخرجه البخاري أيضاً. قال علماؤنا: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطباً بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين؛ فالكتابي كان مخاطباً من جهة نبيه، ثم أنه خوطب من جهة نبيّنا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين، وكذلك العبد هو مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده، ورب الأمة لما قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية، ثم إنه لما أعتقها وتزوّجها أحياها إحياء الحرّية التي ألحقها فيه بمنصبه، فقد قام بما أمر فيها، فأجر كل واحد منهما أجرين. ثم إن كل واحد من الأجرين مضاعف في نفسه، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الأجور. ولذلك قيل: إن العبد الذي يقوم بحق سيده وحق الله تعالى أفضل من الحرّ، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وغيره. وفي «الصحيح» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للعبد المملوك المصلح أجران" والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك. قال سعيد بن المسيّب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمّه لصحبتها. وفي «الصحيح» أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعمّا للمملوك أن يُتوفَّى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعمّا له" .

الثانية: قوله تعالى: { بِمَا صَبَرُواْ } عام في صبرهم على ملتهم، ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك.

الثالثة: قوله تعالى: { وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ } أي يدفعون. درأت إذا دفعت، والدرء الدفع. وفي الحديث: "ادرؤوا الحدود بِالشبهات" . قيل: يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى. وقيل: يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب؛ وعلى الأوّل فهو وصف لمكارم الأخلاق؛ أي من قال لهم سوءاً لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه. فهذه آية مهادنة، وهي من صدر الإسلام، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. ومنه قوله عليه السلام لمعاذ: "وأتبعِ السيئة الحسنة تمحها وخالقِ الناس بخلق حسن" ومن الخلق الحسن دفع المكروه والأذى، والصبر على الجفا بالإعراض عنه ولين الحديث.

الرابعة: قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أثنى عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع، وفي ذلك حض على الصدقات. وقد يكون الإنفاق من الأبدان بالصوم والصلاة؛ ثم مدحهم أيضاً على إعراضهم عن اللغو؛ كما قال تعالى: { { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [الفرقان: 72] أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا عنه؛ أي لم يشتغلوا به { وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } أي متاركة؛ مثل قوله: { { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63] أي لنا ديننا ولكم دينكم. { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } أي أَمْناً لكم منا فإنا لا نحاربكم، ولا نسابّكم، وليس من التحية في شيء. قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال. { لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة.