التفاسير

< >
عرض

قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
٢١
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٢٢
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٣
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٢٤
وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٥
-العنكبوت

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض { فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ } على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم؛ لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } وقرأ أبو عمرو وابن كثير: { النَّشَاءَةَ } بفتح الشين وهما لغتان مثل الرأفةِ والرآفةِ وشبهه. الجوهري: أنشأه الله خلقه، والاسم النشأة والنشاءة بالمدّ عن أبي عمرو بن العلاء. { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } أي بعدله. { وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } أي بفضله. { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } ترجعون وتردون. { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } قال الفرّاء: معناه ولا من في السماء بمعجزين الله وهو غامض في العربية؛ للضمير الذي لم يظهر في الثاني. وهو كقول حسان:

فمن يَهْجو رسول اللَّهِ منكمويمَدحُهُ ويَنصرُه سَواءُ

أراد ومَن يمدحه وينصره سواء؛ فأضمر مَن؛ وقاله عبد الرحمن بن زيد. ونظيره قوله سبحانه: { { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] أي مَن له. والمعنى إن الله لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء إن عصوه. وقال قُطْرُب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا، بمعنى لا يفوتني بالبصرة لو صار أليها. وقيل: لا يستطيعون هرباً في الأرض ولا في السماء. وقال المبرّد: والمعنى ولا مَن في السماء على مَن ليست موصولة ولكن تكون نكرة و{ فِي السَّمَاءِ } صفة لها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. وردّ ذلك عليّ بن سليمان. وقال: لا يجوز. وقال: إن مَن إذا كانت نكرة فلا بد من وصفها فصفتها كالصلة، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة؛ قال: والمعنى إن الناس خوطبوا بما يعقلون؛ والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله؛ كما قال: { { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 78]. { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } ويجوز { نَصِيرٌ } بالرفع على الموضع، وتكون { مِن } زائدة. { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ } أي بالقرآن أو بما نصب من الأدلة والأعلام. { أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } أي من الجنة ونسب اليأس إليهم والمعنى أويسوا. وهذه الآيات اعتراض من الله تعالى تذكيراً وتحذيراً لأهل مكة. ثم عاد الخطاب إلى قصة إبراهيم. فقال: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } حين دعاهم إلى الله تعالى { إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } ثم اتفقوا على تحريقه { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ } أي من إذايتها { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } أي في إنجائه من النار العظيمة حتى لم تحرقه بعد ما ألقي فيها { لآيَاتٍ }. وقراءة العامة { جَوَابَ } بنصب الباء على أنه خبر كان و{ أَنْ قَالُوا } في محل الرفع اسم كان. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار: { جَوَابُ } بالرفع على أنه اسم { كان } و{ أَنْ } في موضع الخبر نصباً. { وَقَالَ } إبراهيم { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وقرأ حفص وحمزة: { مَوَدَّة بَيْنِكُمْ }. وابن كثير وأبو عمرو والكسائي: { مَوَدَّةٌ بَيْنِكُمْ }. والأعشى عن أبي بكر عن عاصم وابن وثاب والأعمش: { مَوَدَّةٌ بَيْنَكُمْ }. الباقون. { مَوَدَّةُ بَيْنَكُمْ }. فأما قراءة ابن كثير ففيها ثلاثة أوجه؛ ذكر الزجاج منها وجهين: أحدهما: أن المودة ارتفعت على خبر إنّ وتكون { ما } بمعنى الذي. والتقدير إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودّةُ بينِكم. والوجه الآخر: أن يكون على إضمار مبتدأ أي هي مودّةُ أو تلك مودّةُ بينِكم. والمعنى آلهتكم أو جماعتكم مودّةُ بينِكم. قال ابن الأنباري: { أَوْثَاناً } وقف حسن لمن رفع المودّة بإضمار ذلك مودّة بينكم، ومن رفع المودّة على أنها خبر إنّ لم يقف. والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون { مَوَدَّةُ } رفعاً بالابتداء و{ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } خبره؛ فأما إضافة { مَوَدَّةُ } إلى { بَيْنِكُمْ } فإنه جعل { بَيْنِكُمْ } اسماً غير ظرف، والنحويون يقولون جعله مفعولاً على السعة. وحكى سيبويه: يا سارق الليلة أهل الدار. ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف؛ لعلةٍ ليس هذا موضع ذكرها. ومن رفع { مَوَدَّةٌ } ونوّنها فعلى معنى ما ذكر، و{ بَيْنَكُمْ } بالنصب ظرفاً. ومن نصب { مَوَدَّةَ } ولم ينوّنها جعلها مفعولة بوقوع الاتخاذ عليها وجعل { إنما } حرفاً واحداً ولم يجعلها بمعنى الذي. ويجوز نصب المودّة على أنه مفعول من أجله كما تقول: جئتك ابتغاء الخير، وقصدت فلاناً مودّة له { بينِكم } بالخفض. ومن نوّن { مَوَدَّةً } ونصبها فعلى ما ذكر { بَيْنَكُمْ } بالنصب من غير إضافة، قال ابن الأنباري: ومن قرأ: { مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ } و{ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } لم يقف على الأوثان، ووقف على الحياة الدنيا. ومعنى الآية جعلتم الأوثان تتحابون عليها وعلى عبادتها في الحياة الدنيا { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } تتبرأ الأوثان من عبّادها والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل: { { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67]. { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } هو خطاب لعبدة الأوثان الرؤساء منهم والأتباع. وقيل: تدخل فيه الأوثان كقوله تعالى: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98].