التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ
١٧٣
-آل عمران

الجامع لاحكام القرآن

اختُلف في قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } فقال مُجاهد ومُقاتِل وعِكرمة والكَلْبيّ: هو نُعيم بن مسعود الأشجعيّ. واللّفظ عامّ ومعناه خاص؛ كقوله: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. السُّدِّي: هو أعرابيّ جُعِل له جُعْل على ذلك. وقال ٱبن إسحاقَ وجماعةٌ: يريد بالناس ركْبَ عبدِ القيس، مَرُّوا بأبي سفيان فدسّهم إلى المسلمين ليثبّطوهم. وقيل: الناس هنا المنافقون. قال السُّدِّي: لما تجهّز النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه للمسير إلى بَدْرٍ الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا، وقد قاتلوكم في دياركم وظَفِروا؛ فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد. فقالوا: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ». وقال أبو مَعْشر: دخل ناس من هُذيل من أهل تِهامة المدينةَ، فسألهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقالوا: { قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } جموعاً كثيرة { فَٱخْشَوْهُمْ } أي فخافوهم وٱحذروهم؛ فإنه لا طاقة لكم بهم. فالناس على هذه الأقوال على بابه من الجمع. والله أعلم.

قوله تعالى: { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } أي فزادهم قولُ الناس إيماناً، أي تصديقاً ويقيناً في دينهم، وإقامةً على نُصرتهم، وقوّةً وجراءة واستعداداً. فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال. وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه على أقوال. والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان الذي هو تاجٌ واحدٌ، وتصديق واحد بشيء مّا، إنما هو معنًى فَرْدٌ، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال؛ فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلَّقاته دون ذاته. فذهب جمع من العلماء إلى أنه يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه، لا سيما أن كثير من العلماء يوقعون ٱسم الإيمان على الطاعات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون باباً فأعلاها قول لا إلۤه إلا اللَّهُ وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" أخرجه الترمذيّ، وزاد مسلم "والحياء شُعْبَةٌ من الإيمان" وفي حديث عليّ رضي الله عنه: "إن الإيمان ليبدو لُمَظَةً بيضاء في القلب، كلما ٱزداد الإيمان ٱزدادت اللُّمَظَة" . وقوله «لمظة» قال الأصمعيّ: اللمظة مثل النُّكْتة ونحوها من البياض؛ ومنه قيل: فرس ألْمَظ، إذا كان بجَحْفَلته شيء من بياض. والمحدّثون يقولون «لمظة» بالفتح. وأما كلام العرب فبالضم؛ مثل شُبهة ودهمة وخُمرة. وفيه حُجّةٌ على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص. ألا تراه يقول؛ كلما ٱزداد النفاق ٱسودّ القلب حتى يسودّ القلب كلّه. ومنهم من قال: إن الإيمان عَرَض، وهو لا يَثْبُتُ زمانين؛ فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللصُّلحاء متعاقب، فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن، وباعتبار دوام حضوره. وينقص بتوالي الغَفَلات على قلب المؤمن. أشار إلى هذا أبو المعالي. وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة، حديثِ أبي سعيد الخُدْرِيّ أخرجه مسلم. وفيه: "فيقول المؤمنون يا ربَّنا إخواننا كانوا يصومون ويُصلّون ويَحجُّون فيُقال لهم أخرجوا من عرفتم فتُحَرَّم صُورهُم على النار فيُخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نِصفِ ساقَيْه وإلى رُكبتيه ثم يقولون رَبَّنا ما بَقِيَ فيها أحدٌ ممن أمرتنا به فيقول ٱرْجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقالَ دينار من خير فأخرجوه فيُخرِجون خلقاً كثيراً ثم يقولون رَبَّنا لم نَذَرْ فيها أحداً ممن أمرتنا ثم يقول ٱرجعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقَال نِصفِ دِينار من خير فأخرجوه فيُخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون رَبَّنا لم نَذَرْ فيها ممن أمرتنا أحداً ثم يقول ٱرجِعوا فمن وجدتم في قلبه مِثقَال ذَرَّةٍ من خير فأخرجوه" وذكر الحديث. وقد قيل: إن المراد بالإيمان في هذا الحديث أعمالُ القلوب؛ كالنّية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك. وسمّاها إيماناً لكونها في محل الإيمان أو عنى بالإيمان، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره، أو كان منه بسبب. دليل هذا التأويل قولُ الشافعين بعد إخراج من كان في قلبه مثقالُ ذرّة من خير: «لم نَذَرْ فيها خيراً» مع أنه تعالى يُخرج بعد ذلك جموعاً كثيرة ممن يقول لا إلۤه إلا الله، وهم مؤمنون قطعاً؛ ولو لم يكونوا مؤمنين لما أخرجهم. ثم إن عُدِم الوجود الأوّل الذي يُرَكَّب عليه المِثْل لم تكن زيادةٌ ولا نقصان. وقُدّر ذلك في الحركة. فإن الله سبحانه إذا خَلق علْماً فَرْداً وخلق معه مِثْلَه أو أمثالَه بمعلومات فقد زاد علمه؛ فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص، أي زالت الزيادة. وكذلك إذا خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها. وذهب قوم من العلماء إلى أن زيادة الإيمان ونقصَه إنما هو من طريق الأدلة، فتزيد الأدلّة عند واحد فيقال في ذلك: إنها زيادة في الإيمان؛ وبهذا المعنى ـ على أحد الأقوال ـ فُضّل الأنبياء على الخلق، فإنهم عَلِموه من وجوه كثيرة، أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها. وهذا القول خارج عن مقتضى الآية؛ إذ لا يُتصوّر أن تكون الزيادة فيها من جهة الأدلة. وذهب قوم: إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفرائض والأخبار في مدّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابرَ الدّهر. وهذا إنما هو زيادة إيمان؛ فالقول فيه إنّ الإيمان يزيد قول مَجازِيّ، ولا يُتصوّر فيه النقص على هذا الحدّ، وإنما يتصوّر بالإضافة إلى من عُلِم. فاعلم.

قوله تعالىٰ: { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } أي كافينا الله. وحسب مأخوذ من الإحساب، وهو الكفاية. قال الشاعر:

فتملأ بيتنا إقْطاً وَسَمْناًوَحَسْبُكَ من غِنًى شِبَعٌ ورِيُّ

روى البخاريّ عن ابن عباس قال في قوله تعالىٰ: { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } ـ إلى قوله: ـ { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } قالها إبراهيم الخليل عليه السَّلام حين ألْقِيَ في النَار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم. والله أعلم.