التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ
٢٠
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ
٢٢
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٢٣
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٢٤
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ
٢٥
وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
٢٦
-الروم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } أي من علامات رُبُوبِيَّته ووَحْدانيّته أن خلقكم من تراب؛ أي خلق أباكم منه والفرع كالأصل، وقد مضى بيان هذا في «الأنعام». و«أنْ» في موضع رفع بالابتداء وكذا { أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [الروم: 21].

{ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } ثم أنتم عقلاء ناطقون تتصرفون فيما هو قِوام معايشكم، فلم يكن ليخلقكم عَبَثاً؛ ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. ومعنى: { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي نساء تسكنون إليها. { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل: المراد حوّاء، خلقها من ضِلع آدم؛ قاله قتادة. { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } قال ابن عباس ومجاهد: المودّة الجماع، والرحمة الولد؛ وقاله الحسن. وقيل: المودّة والرحمة عطفُ قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودةُ: المحبةُ، والرحمةُ: الشفقةُ؛ ورُوي معناه عن ابن عباس قال: المودّة حبُّ الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال: إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوّة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بُدىء خلقه فيحتاج إلى سَكَن، وخُلقت المرأة سكناً للرجل؛ قال الله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [الروم: 20] الآية. وقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا } فأوّل ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوّة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيَّج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهِياج، وللرجال خُلق البُضع منهنّ، قال الله تعالى: { { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } [الشعراء: 166] فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم؛ ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها" . وفي لفظ آخر: "إذا باتت المرأة هاجرة فِراش زوجِها لعنتها الملائكة حتى تُصبِح" . { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } تقدّم في «البقرة» وكانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق. { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } اللّسان في الفم؛ وفيه اختلاف اللغات: من العربيّة والعجمية والتركية والرومية. واختلاف الألوان في الصور: من البياض والسواد والحمرة؛ فلا تكاد ترى أحداً إلا وأنت تفرّق بينه وبين الآخر. وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين؛ فلا بد من فاعل، فعُلِم أن الفاعل هو الله تعالى؛ فهذا من أدلّ دليل على المدبر البارىء. { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ } أي للبَرّ والفاجر. وقرأ حفص: «للعَالِمِينَ» بكسر اللام جمع عالم. { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار؛ فحذِف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة؛ فجعل النوم بالليل دليلاً على الموت، والتصرفُ بالنهار دليلاً على البعث. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } يريد سماع تفهّم وتدبّر. وقيل: يسمعون الحق فيتبعونه. وقيل: يسمعون الوعظ فيخافونه. وقيل: يسمعون القرآن فيصدّقونه؛ والمعنى متقارب. وقيل: كان منهم من إذا تُلِي القرآن وهو حاضر سدّ أذنيه حتى لا يسمع؛ فبيّن الله عز وجل هذه الدلائل عليه. { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً } قيل: المعنى أن يريكم، فحذف «أن» لدلالة الكلام عليه؛ قال طرفة:

ألاَ أيّهذا اللائِمي أحْضُرُ الوَغَىوأنْ أشْهَدَ اللَّذاتِ هل أنت مُخْلِدِي

وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ أي ويريكم البرق من آياته. وقيل: أي ومن آياته آيةٌ يريكم بها البرق؛ كما قال الشاعر:

وما الدّهر إلا تارتان فمنهماأموتُ وأخْرَى أبتغي العيش أكْدَحُ

وقيل: أي من آياته أنه يريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته؛ قاله الزجاج، فيكون عطف جملة على جملة. { خَوْفاً } أي للمسافر. { وَطَمَعاً } للمقيم؛ قاله قتادة. الضحاك: «خَوْفاً» من الصواعق، «وَطَمَعاً» في الغيث. يحيـى بن سلام: «خَوْفاً» من البرد أن يهلك الزرع، «وَطَمَعاً» في المطر أن يحيي الزرع. ابن بحر: «خَوْفاً» أن يكون البرق بَرْقاً خُلَّباً لا يمطر، «وَطَمَعاً» أن يكون ممطراً؛ وأنشد قول الشاعر:

لا يكن بَرْقُك برقاً خُلّباإن خير البرق ما الغيث معه

وقال آخر:

فقد أرِد المياه بغير زادسوى عدّى لها برق الغمام

والبرق الخُلّب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع؛ ومنه قيل لمن يَعِد ولا يُنْجز: إنما أنت كبرقٍ خُلّب. والخُلّب أيضاً: السحاب الذي لا مطر فيه. ويقال: بَرْقُ خُلّب، بالإضافة. { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } تقدم. { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ } «أَنْ» في محل رفع كما تقدم؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل: بتدبيره وحكمته؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل: «بأمرِهِ» بإذنه؛ والمعنى واحد. { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلّبث؛ كما يجيب الداعي المطاعَ مَدْعوُّه؛ كما قال القائل:

دَعَوْتُ كُلَيباً باسمه فكأنمادعوت برأس الطَّود أو هو أسرع

يريد برأس الطود: الصَّدى أو الحجر إذا تَدَهْده. وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بـ«ـثم» لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر؛ كما قال تعالى: { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر: 68]. و«إذا» الأولى في قوله تعالى: { إِذَا دَعَاكُمْ } للشرط، والثانية في قوله تعالى: { إِذَآ أَنتُمْ } للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وأجمع القراء على فتح التاء هنا في «تَخْرُجُونَ». واختلفوا في التي في «الأعراف» فقرأ أهل المدينة: { { وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [الأعراف: 25] بضم التاء، وقرأ أهل العراق: بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد. والمعنيان متقاربان، إلا أن أهل المدينة فرّقوا بينهما لنسق الكلام، فنسقُ الكلام في التي في «الأعراف» بالضم أشبه؛ إذ كان الموت ليس من فعلهم، وكذا الإخراج. والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام؛ أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم؛ فالفعل (بهم) أشبه. وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل الآخرة؛ على ما تقدّم ويأتي. وقرىء: «تخرجون» بضم التاء وفتحها، ذكره الزَّمَخْشَرِيّ ولم يزد على هذا شيئاً، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق، والله أعلم. { وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } خلقاً وملكاً وعبداً. { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } رُوي عن أبي سعيد الخدرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة" . قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد. وقيل: «قَانتُونَ» مقِرّون بالعبودية، إما قالة وإما دلالة؛ قاله عِكرمة وأبو مالك والسدّي. وقال ابن عباس؛ «قَانتُونَ» مصلون. الربيع بن أنس: «كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ» أي قائم يوم القيامة؛ كما قال: { { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [المطففين: 6] أي للحساب. الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له. سعيد بن جبير: «قَانِتُونَ» مخلصون.