التفاسير

< >
عرض

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٠
-الروم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ } فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قال الزجاج: «فِطْرَةَ» منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. قال: لأن معنى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ» اتبع الدّين الحنيف واتبع فطرة الله. وقال الطبري: «فِطْرَةَ اللَّهِ» مصدر من معنى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ» لأن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فِطرة. وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناسَ له؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على «حَنِيفاً» تاماً. وعلى القولين الأوّلين يكون متصلاً، فلا يوقف على «حَنِيفاً». وسميت الفِطْرة دِيناً لأن الناس يُخلقون له، قال جلّ وعز: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]. ويقال: «عَلَيْهَا» بمعنى لها؛ كقوله تعالى: { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7]. والخطاب بـ«أَقِمْ وَجَهَكَ» للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدِّين المستقيم؛ كما قال: { { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ ٱلْقِيِّمِ } [الروم: 43] وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوّة على الجِدّ في أعمال الدين؛ وخصّ الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفُه. ودخل في هذا الخطاب أمّتُه باتفاق من أهل التأويل. و«حَنِيفاً» معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة.

الثانية: في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفِطرة ـ في رواية على هذه الملة ـ أبواه يُهَوّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسَانه كما تُنْتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحِسّون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم؛ { فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ }، في رواية: حتى تكونوا أنتم تجدعونها قالوا: يا رسول الله؛ أفرأيتَ من يموت صغيراً؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" . لفظ مسلم.

الثالثة: واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعدّدة؛ منها الإسلام؛ قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما؛ قالوا: وهو المعروف عند عامّة السلف من أهل التأويل؛ واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعَضَدوا ذلك بحديث عِياض بن حِمار المُجَاشِعيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوماً: "ألاَ أحدّثكم بما حدّثني الله في كتابه، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالاً لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالاً وحراماً..." الحديث. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة..." فذكر منها قصّ الشارب، وهو من سنن الإسلام؛ وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يُدرِكوا في الجنة؛ أولادَ مسلمين كانوا أو أولاد كفار. وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها؛ أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ. قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر: المبتدىء؛ واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي ابتدأتها. قال الْمَرْوَزِيّ: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه. قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطّئه وذكر في باب القدر فيه من الآثار ـ يَدلّ على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم. ومما احتجوا به ما روي عن كعب القُرَظي في قول الله تعالى: "فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ" [الأعراف: 30] قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيَّره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم ردّه الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال: وكان من الكافرين.

قلت: قد مضى قول كعب هذا في «الأعراف» وجاء معناه مرفوعاً من حديث "عائشة رضي الله عنها قالت: دُعِي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طُوبَى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه! قال: أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم" خرجه ابن ماجه في السنن. وخرج أبو عيسى الترمذيّ "عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا؛ فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ـ ثم قال للذي في شماله ـ هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً..." وذكر الحديث، وقال فيه: حديث حسن. وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى: { فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } ولا قوله عليه السلام: "كل مولود يولد على الفطرة" العمومَ، وإنما المراد بالناس المؤمنون؛ إذ لو فُطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقواماً للنار؛ كما قال تعالى: { { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } [الأعراف: 179] وأخرج الذرّية من صلب آدم سوداء وبيضاء. وقال في الغلام الذي قتله الخَضِر؛ طبع يوم طبع كافراً. وروى أبو سعيد الخُدْرِي قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار؛ وفيه: وكان فيما حفِظْنا أن قال: "ألا إن بني آدم خُلقوا طبقات شتّى فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً، ومنهم حَسَن القضاء حَسَن الطلب" . ذكره حماد بن سلمة في مسند الطيالسي قال: حدّثنا عليّ بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } [الأحقاف: 25] ولم تدمر السموات والأرض. وقوله: { { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 44] ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة. وقال إسحاق بن رَاهْوَيه الحنظلي: تم الكلام عند قوله: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } ثم قال: { فِطْرَةَ ٱللَّهِ } أي فطر الله الخلق فِطرة إمّا بجنة أو نار، وإليه أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة" ولهذا قال: { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } قال شيخُنا أبو العباس: من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفِطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغيّر. وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخِلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه؛ فكأنه قال: كل مولود يولد على خِلْقة يعرِف بها ربّه إذا بلغ مبلغ المعرفة؛ يريد خِلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. واحتجوا على أن الفطرة الخِلقة، والفاطر الخالق؛ لقول لله عز وجل: { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 1] يعني خالقهن، وبقوله: { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [يۤس: 24] يعني خلقني، وبقوله: { { ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ } [الأنبياء: 56] يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخِلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يُفْطَر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار. قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خِلْقةً وطبعاً وبِنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميّزوا. واحتجوا بقوله في الحديث: "كما تُنْتَج البَهِيمةُ بهيمةً جَمعاءً ـ يعني سالمة ـ هل تُحِسّون فيها من جَدْعاء" يعني مقطوعة الأذن. فمثّل قلوبَ بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخَلْق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعدُ وأنوفها؛ فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلّهم. قالوا: ولو كان الأطفال قد فطِروا على شيء من الكفر والإيمان في أوليّة أمورهم ما انتقلوا عنه أبداً، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون. قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفراً أو إيماناً، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئاً، قال الله تعالى: { { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } [النحل: 78] فمن لا يعلم شيئاً استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر بن عبد البر: هذا أصح ما قيل في معنى الفِطرة التي يولد الناس عليها. ومن الحجة أيضاً في هذا قوله تعالى: { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور: 16] و { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر: 38] ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15] ولما أجمعوا على دفع القَوَد والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. والله أعلم. ويستحيل أن تكون الفِطرة المذكورةُ الإسلامَ، كما قال ابن شهاب؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل. وأما قول الأوزاعي: سألت الزهرِيّ عن رجل عليه رَقَبة أيجزي عنه الصبيّ أن يعتقه وهو رضيع؟ قال: نعم؛ لأنه وُلد على الفِطرة يعني الإسلام؛ فإنما أجزَى عتقه عند من أجازه؛ لأن حكمه حكمُ أبويه. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزِي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلّى، وليس في قوله تعالى: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [الأعراف: 29] ولا في «أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدّره عليه» ـ دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمناً أو كافراً؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيماناً ولا كفراً، والحديث الذي جاء فيه: "أن الناس خلقوا على طبقات" ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به عليّ بن زيد بن جُدْعان، وقد كان شعبة يتكلّم فيه. على أنه يحتمل قوله: «يولد مؤمناً» أي يولد ليكون مؤمناً، ويولد ليكون كافراً على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث: "خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار" أكثر من مراعاة ما يختم به لهم؛ لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو ناراً، أو يعقل كفراً أو إيماناً.

قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخِلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدّة ومهيّأة لأن يميّز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربّه ويعرف شرائعه ويؤمن به؛ فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدِّين الذي هو الحنيف، وهو فِطْرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تَعرِضهم العوارض؛ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو يُنَصِّرانه" فذِكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال شيخنا في عبارته: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودينَ الإسلام وهو الدِّين الحق. وقد دلّ على صحة هذا المعنى قوله: "كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمْعاء هل تُحسّون فيها من جَدْعاء" يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليماً من الآفات، فلو تُرك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملاً بريئاً من العيوب، لكن يُتصرّف فيه فيُجدع أذنه ويُوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل؛ وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.

قلت: وهذا القول مع القول الأوّل موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة: من خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يميناً وشمالاً، وأنهم إن ماتوا صغاراً فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذَّرّ أقرّوا له بالربوبية وهو قوله تعالى: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ } [الأعراف: 172]. ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالرُّبوبية، وأنه الله لا إلٰه غيره، ثم يُكتب العبد في بطن أمّه شقِيّاً أو سعيداً على الكتاب الأوّل؛ فمن كان في الكتاب الأوّل شقيًّا عُمّر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأوّل سعيداً عُمّر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيداً، ومن مات صغيراً من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأوّل الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق. ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يجمع بين الأحاديث، ويكون معنى "قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين" يعني لو بلغوا. ودلّ على هذا التأويل أيضاً حديث البخاريّ عن سَمُرة بن جُنْدُب "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ـ الحديثُ الطويل حديثُ الرؤيا، وفيه قوله عليه السلام: وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الوِلدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة. قال فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين" . وهذا نصّ يرفع الخلاف، وهو أصح شيء رُوي في هذا الباب، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء؛ قاله أبو عمر بن عبد البر. وقد روي من حديث أنس قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: لم تكن لهم حسنات فيجزَوْا بها فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار، فهم خدم لأهل الجنة" ذكره يحيـى بن سلام في التفسير له. وقد زدنا هذه المسألة بياناً في كتاب التذكرة، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك، والحمد لله. وذكر إسحاق ابن راهْوَيه قال: حدّثنا يحيـى بن آدم قال: أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العُطَارِديّ قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو متقارباً ـ أو كلمة تشبه هاتين ـ حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقَدَر. قال يحيـى بن آدم: فذكرته لابن المبارك فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ قال فسكت. وقال أبو بكر الوراق: «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» هي الفقر والفاقة؛ وهذا حسن؛ فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج، نعم! وفي الآخرة.

قوله تعالى: { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه؛ أي لا يشقى من خَلَقه سعيداً. ولا يسعد من خلقه شقيًّا. وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله؛ وقاله قتادة وابن جُبير والضحاك وابن زيد والنَّخَعِيّ، قالوا: هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة: وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها؛ فيكون معناه النهي عن خِصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في «النساء». { ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } أي ذلك القضاء المستقيم؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ذلك الحساب البَيّن. وقيل: «ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقاً معبوداً، وإلهاً قديماً سبق قضاؤه ونَفَذ حكمه.