التفاسير

< >
عرض

مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
٢٣
لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٤
-الأحزاب

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } رفع بالابتداء، وصَلُح الابتداء بالنكرة لأن «صَدَقُوا» في موضع النعت. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ }. «مَن» في موضع رفع بالابتداء. وكذا «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ» والخبر في المجرور. والنَّحْب: النذر والعهد؛ تقول منه: نَحَبت أَنْحُب؛ بالضم. قال الشاعر:

وإذا نحبت كَلْبٌ على الناس إنهمأحق بتاج الماجد المتكرم

وقال آخر:

قـد نحـب المجـدُ علـيـنا نَحْـبَـا

وقال آخر:

أَنَحْـبٌ فيـقـضَـى أم ضـلالٌ وبـاطـلُ

وروى البخاريّ ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال عمّي أنس بن النَّضْر ـ سُمِّيت به ـ ولم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكَبُر عليه فقال: أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبتُ عنه، أما واللَّهِ لئن أرانِي الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد لَيَرَيَنّ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها؛ فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد من العام القابل، فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واهاً لريح الجنة! أجدها دون أُحُد؛ فقاتل حتى قُتل، فوجِد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورَمْية. فقالت عَمّتي الرُّبَيِّع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا بَبَنانه. ونزلت هذه الآية: { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } لفظ الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 23] الآية: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت يده؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أوجب طلحة الجنة" . وفي الترمذيّ عنه: "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابيّ جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقّرونه ويهابونه؛ فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه؛ ثم إني اطّلعت من باب المسجد وعليّ ثياب خضر، فلما رآني النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: هذا ممن قضى نَحْبَه" قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير. وروى البيهقي عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحُد، مرّ على مصعب بن عُمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودَعَا له، ثم تلا هذه الآية: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ ـ إلى ـ تَبْدِيلاً } ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأْتُوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه" . وقيل: النحب الموت؛ أي مات على ما عاهد عليه؛ عن ابن عباس. والنحب أيضاً الوقت والمدّة. يقال: قضى فلان نحبه إذا مات. وقال ذو الرمّة:

عشِيّةَ فرّ الحارِثيّون بعد ماقَضَى نَحْبه في ملتَقَى الخيل هَوْبَرُ

والنَّحْب أيضاً الحاجة والهِمة؛ يقول قائلهم: مالي عندهم نحب؛ وليس المراد بالآية. والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدّمنا أوّلاً؛ أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل؛ مثل حمزة وسعد بن معاذ وأنس بن النضر وغيرهم. ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدّلوا عهدهم ونذرهم. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ «فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ومنهم من بدّل تَبْديلاً» قال أبو بكر الأنباريّ: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود؛ لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعناً على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء؛ فما يعرف فيهم مغيّر وما وجد من جماعتهم مبدّل؛ رضي الله عنهم. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم. { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } في الآخرة { إِن شَآءَ } أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة؛ وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.