التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً
٣٦
-الأحزاب

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى: روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته، فظنّت أن الخطبة لنفسه، فلما تبيّن أنه يريدها لزيد، كرهت وأبت وامتنعت؛ فنزلت الآية. فأذعنت زينب حينئذٍ وتزوّجته. في رواية: فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله لنسبها من قريش، وأن زيداً كان بالأمس عبداً، إلى أن نزلت هذه الآية، فقال له أخوها: مُرْني بما شئت، فزوّجها من زيد. وقيل: إنها نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، وكانت وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوّجها من زيد بن حارثة؛ فكرهت ذلك هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجَنا غيره؛ فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد؛ قاله ابن زيد. وقال الحسن: ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر أن يعصياه.

الثانية: لفظ «ما كان، وما ينبغي» ونحوهما، معناها الحظر والمنع. فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون؛ كما في هذه الآية. وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلاً كقوله تعالى: { { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [النمل: 60]. وربما كان العلم بامتناعه شرعاً كقوله تعالى: { { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } [آل عمران: 79]، وقوله تعالى: { { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [الشورى: 51]. وربما كان في المندوبات؛ كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل، ونحو هذا.

الثالثة: في هذه الآية دليل بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان؛ خلافاً لمالك والشافعيّ والمغيرة وسُحْنون. وذلك أن الموالي تزوّجت في قريش؛ تزوّج زيد زينب بنت جحش. وتزوّج المِقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير. وزوّج أبو حذيفة سالماً من فاطمة بنت الوليد بن عُتبة. وتزوّج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف. وقد تقدّم هذا المعنى في غير موضع.

الرابعة: قوله تعالى: { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } قرأ الكوفيون: «أَنْ يَكُونَ» بالياء. وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنه قد فرق بين المؤنث وبين فعله. الباقون بالتاء؛ لأن اللفظ مؤنث (فتأنيث) فعله حسن. والتذكير على أن الخِيرة بمعنى التخيير؛ فالخِيرة مصدر بمعنى الاختيار. وقرأ ابن السَّمَيْقعَ «الخِيْرة» بإسكان الياء. وهذه الآية في ضمن قوله تعالى: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6]. ثم توعد تعالى وأخبر أن من يعص الله ورسوله فقد ضل. وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة «أفعل» للوجوب في أصل وضعها؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلّف عند سماع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علّق على المعصية بذلك الضلالَ، فلزم حمل الأمر على الوجوب. والله أعلم.