التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً
٥٣
-الأحزاب

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست عشرة مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } «أنْ» في موضع نصب على معنى: إلا بأن يؤذن لكم، ويكون الاستثناء ليس من الأول. { إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } نصب على الحال، أي لا تدخلوا في هذه الحال. ولا يجوز في «غَيْر» الخفض على النعت للطعام، لأنه لو كان نعتاً لم يكن بدّ من إظهار الفاعلين، وكان يقول: غير ناظرين إناه أنتم. ونظير هذا من النحو: هذا رجلٌ مع رجل ملازمٌ له، وإن شئت قلت: هذا رجلٌ مع رجلٍ ملازمٍ له هو.

وهذه الآية تضمّنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس. والثانية: أمر الحجاب. وقال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثقلاء. فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوّج زينب بنت جحش امرأة زيد أوْلَم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدّثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته موَلّية وجهها إلى الحائط، فثَقُلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب. قال: ووعظ القومَ بما وُعظوا به، وأنزل الله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ ـ إلى قوله ـ إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } أخرجه الصحيح. وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبيّ: إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة. والأوّل الصحيح، كما رواه الصحيح. وقال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبيّ صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرِك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرِك، ثم يأكلون ولا يخرجون. وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وهذا أدب أدّب الله به الثقلاء. وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبيّ: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. وأما قصة الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة: سببها أمر القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفاً. وقالت عائشة رضي الله عنها وجماعة: سببها أن عمر قال قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهنّ البَرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن؛ فنزلت الآية. وروى الصحيح عن ابن عمر قال: قال عمر وافقت ربّي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. هذا أصح ما قيل في أمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأقوال والروايات فواهية، لا يقوم شيء منها على ساق، وأضعفها ما روي عن ابن مسعود: أن عمر أمر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب بنت جحش: يا ابن الخطاب، إنك تَغَار علينا والوحي ينزل في بيوتنا! فأنزل الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ } وهذا باطل، لأن الحجاب نزل يوم البناء بزينب، كما بيّناه. أخرجه البخاريّ ومسلم والترمذي وغيرهم. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَطْعَم ومعه بعض أصحابه، فأصاب يَدُ رجل منهم يدَ عائشة، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت آية الحجاب. قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونُضْجَه. وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نُضْج الطعام.

الثانية: قوله تعالى: { بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ } دليل على أن البيت للرجل، ويحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } قلنا: إضافة البيوت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إضافة مِلك، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والإذن إنما يكون للمالك.

الثالثة: واختلف العلماء في بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ كان يسكن فيها أهله بعد موته، هل هي ملك لهنّ أم لا على قولين: فقالت طائفة: كانت ملكاً لهنّ، بدليل أنهنّ سكنّ فيها بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهنّ، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهب ذلك لهنَّ في حياته. الثاني: أن ذلك كان إسكاناً كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة، وتمادى سكناهنّ بها إلى الموت. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربيّ وغيرهم، فإن ذلك من مئونتهنّ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهنّ، كما استثنى لهنّ نفقاتهنّ حين قال: "لا تَقْتَسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة أهلي ومئونة عاملي فهو صدقة" . هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدلّ على ذلك أن مساكنهنّ لم يرثها عنهنّ ورثتهنّ. قالوا: ولو كان ذلك ملكاً لهنّ كان لا شك قد ورثه عنهنّ ورثتهنّ. قالوا: وفي ترك ورثتهنّ ذلك دليل على أنها لم تكن لهنّ ملكاً، وإنما كان لهنّ سكنى حياتهنّ، فلما تَوفَّين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهنّ من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين لسبيلهنّ، فزيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعمّ جميعَهم نفعُه. والله الموفق.

قوله تعالى: { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي غير منتظرين وقت نُضْجه. و«إنَاهُ» مقصور، وفيه لغات: «إنَى» بكسر الهمزة. قال الشيباني:

وكِسْرَى إذ تقسّمه بَنُوهبأسياف كما اقْتُسِم اللِّحام
تمخّضت المَنون له بيومأنَى ولكل حاملة تمام

وقرأ ابن أبي عبلة: «غَيِر نَاظِرِينَ إِنَاه» مجروراً صفة لـ«ـطعام». الزمخشريّ: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غيرِ ناظرين إناه أنتم، كقولك: هندٌ زيدٌ ضاربته هي. وأنى (بفتحها)، وأناء (بفتح الهمزة والمد) قال الحطيئة:

وأخّرت العَشاء إلى سُهَيْلأو الشِّعْرَى فطال بِيَ الأناءُ

يعني إلى طلوع سهيل. وإناه مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان وأدرك.

الرابعة: قوله تعالى: { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } فأكّد المنع، وخصّ وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة. قال ابن العربيّ: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذناً كافياً في الدخول. والفاء في جواب «إذا» لازمة لما فيها من معنى المجازاة.

الخامسة: قوله تعالى: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } أَمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرّق جميعهم وينتشروا. والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله.

السادسة: في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه؛ لأنه قال: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.

السابعة: قوله تعالى: { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } عطف على قوله: { غَيْرَ نَاظِرِينَ } و«غَيْرَ» منصوبة على الحال من الكاف والميم في «لكم» أي غير ناظرين ولا مستأنسين؛ والمعنى المقصود: لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب. { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره. ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفى عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر. وفي الصحيح عن أم سلَمة قالت: " جاءت أم سُليم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأت الماء" .

الثامنة: قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً } الآية. روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع...؛ الحديث. وفيه: قلت يا رسول الله، لو ضربتَ على نسائك الحجاب، فإنه يدخل عليهنّ البرّ والفاجر؛ فأنزل الله عز وجل { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ }.

واختلف في المتاع؛ فقيل: ما يتمتع به من العواريّ. وقيل فَتْوَى. وقيل صحف القرآن. والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.

التاسعة: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهنّ من وراء حجاب في حاجة تَعْرِض، أو مسألة يُستفتين فيها؛ ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها؛ كما تقدّم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعيَّن عندها.

العاشرة: استدلّ بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها. وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعيّ وغيرهما. قال أبو حنيفة: تجوز في الأنساب. وقال الشافعيّ: لا تجوز إلا فيما رآه قبل ذهاب بصره.

الحادية عشرة: قوله تعالى: { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال؛ أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية. وهذا يدلّ على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له؛ فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.

الثانية عشرة: قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } الآية. هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها؛ وتأكيد العلل أقوى في الأحكام.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } روى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلاً قال: لو قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجتُ عائشة؛ فأنزل الله تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } الآية. ونزلت: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }. وقال القشيري أبو نصر عبد الرحمن: قال ابن عباس قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حِراء ـ في نفسه ـ لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوَّجت عائشة، وهي بنت عمي. قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله. قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدّث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقاً فكفّر الله عنه. وقال ابن عطية: روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال: لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوَّجت عائشة؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذّى به؛ هكذا كنَّى عنه ابن عباس ببعض الصحابة. وحكى مكيّ عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيد الله.

قلت: وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة؛ ولا يصح. قال ابن عطية: لله درّ ابن عباس! وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله! والكذب في نقله؛ وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. يروى أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خُنيس بن حُذافة: ما بال محمد يتزوّج نساءنا! والله لو قد مات لأجَلْنا السهام على نسائه؛ فنزلت الآية في هذا؛ فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات. وهذا من خصائصه تمييزاً لشرفه وتنبيهاً على مرتبته صلى الله عليه وسلم. قال الشافعيّرحمه الله : وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحلّ لأحد نكاحهن، ومن استحلّ ذلك كان كافراً؛ لقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً }. وقد قيل: إنما منع من التزوّج بزوجاته؛ لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. قال حذيفة لامرأته: إن سرّك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوّجي من بعدي؛ فإن المرأة لآخر أزواجها. وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في (كتاب التذكرة) من أبواب الجنة.

الرابعة عشرة: اختلف العلماء في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موته؛ هل بقين أزواجاً أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟ فقيل: عليهن العدة؛ لأنه تُوُفّي عنهن، والعدة عبادة. وقيل: لا عدة عليهن؛ لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة. وهو الصحيح؛ لقوله عليه السلام: "ما تركت بعد نفقة عيالي" وروي "أهلي" وهذا اسم خاص بالزوجية؛ فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره؛ وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام لهن بمنزلة المغيب في حق غيره؛ لكونهن أزواجاً له في الآخرة قطعاً بخلاف سائر الناس؛ لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار؛ فبهذا انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وقد قال عليه السلام: "زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة" . وقال عليه السلام: "كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة" .

فرع: فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكَلْبية وغيرها؛ فهل كان يحلّ لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف. والصحيح جواز ذلك؛ لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل على ما تقدّم. وقيل: إن الذي تزوّجها الأشعث بن قيس الكندي. قال القاضي أبو الطيّب: الذي تزوّجها مهاجر بن أبي أميّة، ولم ينكر ذلك أحد؛ فدلّ على أنه إجماع.

الخامسة عشرة: قوله تعالى: { إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } يعني أَذِيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نكاح أزواجه؛ فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه.

السادسة عشرة: قد بيّنا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر، وكان يقول لسَوْدة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة: قد رأيناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. ولا بُعْد في نزول الآية عند هذه الأسباب كلها ـ والله أعلم ـ بَيْدَ أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال: لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها؛ مراعاةً للحجاب الذي نزل بسببها. فدلته أسماء بنت عُميس على سترها في النعش في القُبّة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر. وروي أن ذلك صُنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.