التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
٩
وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
١٠
إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
١١
-يس

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } قال مقاتل: لما عاد أبو جهل إلى أصحابه، ولم يصل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسقط الحجر من يده، أخذ الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال: أقتله بهذا الحجر. فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم طمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فهذا معنى الآية. وقال محمد بن إسحاق في روايته: جلس عتبة وشيبة ٱبنا ربيعة، وأبو جهل وأمية بن خلف، يراصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه؛ فخرج عليهم عليه السلام وهو يقرأ «يس» وفي يده تراب فرماهم به وقرأ: { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } فأطرقوا حتى مرّ عليهم عليه السلام. وقد مضى هذا في سورة «سبحان» ومضى في «الكهف» الكلام في «سَدًّا» بضم السين وفتحها وهما لغتان. { فَأغْشَيْنَاهُمْ } أي غطينا أبصارهم؛ وقد مضى في أول «البقرة». وقرأ ٱبن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر «فأعشيناهم» بالعين غير معجمة من العَشاء في العين وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل قال:

متى تأتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ

وقال تعالى: { { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } [الزخرف: 36] الآية. والمعنى متقارب، والمعنى أعميناهم؛ كما قال:

ومن الحوادثِ لا أَبَالَكَ أَنّنيضُرِبتْ عليّ الأرضُ بالأَسْدَادِ
لا أهتدي فيها لموضعِ تَلْعَةٍبين العُذَيْبِ وبينَ أرضِ مُرَادِ

{ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي الهدى؛ قاله قتادة. وقيل: محمداً حين ائتمروا على قتله؛ قاله السدي. وقال الضحاك: { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } أي الدنيا { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } أي الآخرة؛ أي عَمُوا عن البعث وعَمُوا عن قبول الشرائع في الدنيا؛ قال الله تعالى: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [فصلت: 25] أي زيّنوا لهم الدنيا ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة. وقيل: على هذا «مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا» أي غروراً بالدنيا «وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا» أي تكذيباً بالآخرة. وقيل: «مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» الآخرة «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» الدُّنْيَا. { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } تقدّم في «البقرة» والآية ردّ على القَدَرية وغيرهم. وعن ٱبن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز أحضر غيلان القَدَريّ فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقَدَر؛ فقال: يكذبون عليّ يا أمير المؤمنين. ثم قال: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 2 ـ 3] قال: ٱقرأ يا غيلان فقرأ حتى ٱنتهى إلى قوله: { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } فقال ٱقرأ فقال: { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } فقال: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أنّ هذا في كتاب الله قط. فقال له: يا غيلان ٱقرأ أوّل سورة «يۤس» فقرأ حتى بلغ { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم؛ ٱشهد يا أمير المؤمنين أني تائب. قال عمر: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وثبته، وإن كان كاذباً فسلّط عليه من لا يرحمه وٱجعله آية للمؤمنين؛ فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه. وقال ٱبن عون: فأنا رأيته مصلوباً على باب دمشق. فقلنا: ما شأنك يا غيلان؟ فقال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز.

قوله تعالى: { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } يعني القرآن وعمل به. { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } أي ما غاب من عذابه وناره؛ قاله قتادة. وقيل: أي يخشاه في مغيبه عن أبصار الناس وٱنفراده بنفسه. { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } أي لذنبه { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي الجنة.