التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ
٤٤
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٤٥
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤٦
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٤٧
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٨
مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ
٤٩
فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
٥٠
-يس

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } قال قتادة: يعني «ٱتَّقُوا مَا بَيْن أَيْدِيكُمْ» أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم، «وَمَا خَلْفَكُمْ» من الآخرة. ٱبن عباس وابن جُبير ومجاهد: «مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» ما مضى من الذنوب، «وَمَا خَلْفَكُمْ» ما يأتي من الذنوب. الحسن: «مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» ما مضى من أجَلِكُمْ «وَمَا خَلْفَكُمْ» ما بقي منه. وقيل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» من الدنيا، «وَمَا خَلْفَكُمْ» من عذاب الآخرة؛ قاله سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ٱبن عباس. قال: «مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» من أمر الآخرة وما عملوا لها، «وَمَا خَلْفَكُمْ» من أمر الدنيا فٱحذروها ولا تغتروا بها. وقيل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» ما ظهر لكم «وَمَا خَلْفَكُمْ» ما خفي عنكم. والجواب محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا؛ دليله قوله بعد: { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } فٱكتفى بهذا عن ذلك.

قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ ٱلله } أي تصدّقوا على الفقراء. قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقيل: هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله؛ وذلك قوله: { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً } [الأنعام: 136] فحرموهم وقالوا: لو شاء الله أطعمكم ـ ٱستهزاء ـ فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. قالوا: { أَنُطْعِمُ } أي أنرزق { مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } كان بلغهم من قول المسلمين: أن الرازق هو الله. فقالوا هزءا: أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وعن ٱبن عباس: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله! أيفقره الله ونطعمه نحن. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلاناً، ولو شاء الله لأعزَّ، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين، وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل: قالوا هذا تعلقاً بقول المؤمنين لهم: { أَنفِقُواْ مِمَّا رزَقَكُمُ ٱلله } أي فإذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا؟. وكان هذا الاحتجاج باطلاً؛ لأن الله تعالى إذا ملّك عبداً مالاً ثم أوجب عليه فيه حقّاً فكأنه ٱنتزع ذلك القدر منه، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم: لو شاء الله أطعمهم ولكن كذبوا في الاحتجاج. ومثله قوله: { { سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا } [الأنعام: 148]، وقوله: { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1]. { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } قيل: هو من قول الكفار للمؤمنين؛ أي في سؤال المال وفي ٱتباعكم محمداً. قال معناه مقاتل وغيره. وقيل: هو من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقيل: من قول الله تعالى للكفار حين ردّوا بهذا الجواب. وقيل: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ٱبتلى قوماً بالفقر، وقوماً بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال: والله يا أبا بكر ما أنت إلا في ضلال! أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنتٰ؟ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰوَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } [الليل: 5 ـ 6] الآيات. وقيل: نزلت الآية في قوم من الزنادقة، وقد كان فيهم أقوام يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع، وٱستهزءوا بالمسلمين بهذا القول؛ ذكره القشيري والماوردي.

قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ } لما قيل لهم: «ٱتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ» قالوا: «مَتَى هَذاَ الْوَعْدُ» وكان هذا ٱستهزاء منهم أيضاً أي لا تحقيق لهذا الوعيد، قال الله تعالى: { مَا يَنظُرُونَ } أي ما ينتظرون { إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } وهي نفخة إسرافيل { تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم؛ وهذه نفخة الصَّعْق. وفي «يَخِصِّمُون» خمس قراءات: قرأ أبو عمرو وٱبن كثير: «وَهُمْ يَخَصِّمُونَ» بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وكذا روى وَرْش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش فرووا عنه «يَخْصِّمُونَ» بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع بين ساكنين. وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة: «وَهُمْ يَخْصِمُونَ» بإسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه. وقرأ عاصم والكسائيّ «وَهُم يَخِصِّمُونَ» بكسر الخاء وتشديد الصاد، ومعناه يخصم بعضهم بعضاً. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في الحجة أنهم لا يبعثون. وقد روى ٱبن جبير عن أبي بكر عن عاصم، وحماد عن عاصم كسر الياء والخاء والتشديد. قال النحاس: القراءة الأولى أبينها، والأصل فيها يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنقلت حركتها إلى الخاء. وفي حرف أُبَيّ «وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ» ـ وإسكان الخاء لا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مدٍّ وَلِين. وقيل: أسكنوا الخاء على أصلها، والمعنى يخصم بعضهم بعضاً فحذف المضاف، وجاز أن يكون المعنى يخصمون مجادلَهم عند أنفسهم فحذف المفعول. قال الثعلبي: وهي قراءة أبيّ بن كعب. قال النحاس: فأما «يَخِصمُون» فالأصل فيه أيضاً يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفرّاء أن هذه القراءة أجود وأكثر؛ فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء وٱجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر. وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة الخلق من أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينةٰ وما روي عن عاصم من كسر الياء والخاء فللإتباع. وقد مضى هذا في «البقرة» في { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } وفي «يونس» { يَهْدِي }. وقال عِكرمة في قوله جل وعز: { إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } قال: هي النفخة الأولى في الصور. وقال أبو هريرة: يُنفخ في الصُّور والناس في أسواقهم: فمن حالبٍ لقحة، ومن ذارعٍ ثوباً، ومن مارّ في حاجة. وروى نعيم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فلا يطويانه حتى تقوم الساعة، والرجل يَلِيط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم الساعة، والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم الساعة، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما يَتَبلَّعها حتى تقوم الساعة" . وفي حديث عبد الله بن عمرو: "وأوّل من يسمعه رجل يَلُوط حوضَ إبله ـ قال ـ فيصعق ويصعق الناس الحديث" . { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضاً لما في يده من حق. وقيل: لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضاً بالتوبة والإقلاع؛ بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. { وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } إذا ماتوا. وقيل: إن معنى «وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ» لا يرجعون إليهم قولاً. وقال قتادة: «وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ» أي إلى منازلهم؛ لأنهم قد أعجلوا عن ذلك.