التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ
٤٤
وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً
٤٥
مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
٤٦
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٤٧
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً
٤٨
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٤٩
ٱنظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً
٥٠
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
٥١
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
٥٢
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً
٥٣
-النساء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ } إلى قوله تعالى: { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } الآية.

نزلت في يهود المدينة وما وَالاها. قال ٱبن إسحاق: وكان رِفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهودَ، إذا كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوّى لسانه وقال: أرْعِنا سمَعْك يا محمد حتى نفهمك؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ } إلى قوله { قَلِيلاً }. ومعنى { يَشْتَرُونَ } يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى؛ كما قال تعالى { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16] قاله القتبيّ وغيره. { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ } عطف عليه، والمعنى تضِلوا طريق الحق. وقرأ الحسن: «تُضَلُّوا» بفتح الضاد أي عن السبيل.

قوله تعالى: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } يريد منكم؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم. ويجوز أن يكون «أعلم» بمعنى عليم؛ كقوله تعالى { { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27] أي هيّن. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً } الباء زائدة؛ زيدت لأن المعنى ٱكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم. و «وَلِيّاً» و «نَصِيراً» نصب على البيان، وإن شئت على الحال.

قوله تعالى: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } قال الزجاج: إن جُعلت { مِّنَ } متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله { نَصِيراً }، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على { نَصِيراً } والتقدير من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم؛ ثم حذف. وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النحويون:

لو قلت ما في قومها لم تيثَمِيفضُلها في حسبٍ وَمَبْسِمِ

قالوا: المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضُلها؛ ثم حذف. وقال الفراء: المحذوف { مِّنَ } المعنى: مِن الذين هادوا مَن يحرّفون. وهذا كقوله تعالى: { { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] أي مَن له. وقال ذو الرُّمَّة:

فظَلّوا ومِنهم دَمْعُه سابقٌ لهوآخر يُذْرِي عَبْرةَ العَيْن بالهَمْلِ

يريد ومنهم مَن دمعه، فحذف الموصول. وأنكره المبرّد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة. وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَميّ وإبراهيم النَّخَعِيّ «الكَلاَمَ». قال النحاس: و «الكَلِم» في هذا أوْلى؛ لأنهم إنما يحرّفون كلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو ما عندهم في التوراة وليس يحرّفون جميع الكلام، ومعنى { يُحَرِّفُونَ } يتأوّلونه على غير تأويله. وذَمّهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين. وقيل: { عَن مَّوَاضِعِهِ } يعني صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم. { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي سمعنا قولك وعصينا أمرك. { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قال ٱبن عباس: كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ٱسمع لا سمعتَ، هذا مرادهم ـ لعنهم الله ـ وهم يظهرون أنهم يريدون ٱسمع غير مسمَع مكروها ولا أذًى. وقال الحسن ومجاهد: معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. قال النحاس: ولو كان كذلك لكان غير مسموعٍ منك. وتقدّم القول في { وَرَاعِنَا }. ومعنى { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي يلوُون ألسنتهم عن الحق أي يُميلونها إلى ما في قلوبهم. وأصل اللّيّ الفَتْل، وهو نصب على المصدر، وإن شئت كان مفعولاً من أجله. وأصله لَوْياً ثم أدغمت الواو في الياء. { وَطَعْناً } معطوف عليه أي يطعنون في الدّين، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبِيّاً لدَرَى أننا نَسُبُّه، فأظهر الله تعالى نبيّه على ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول. ومعنى { وَأَقْوَمَ } أصوب لهم في الرأي. { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي إلا إيماناً قليلاً لا يستحقون به اسم الإيمان. وقيل: معناه لا يؤمنون إلا قليلاً منهم؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم.

قوله تعالى: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } قال ابن إسحاق: " كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساءَ من أحبار يهود منهم عبد الله بن صُورِيا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود ٱتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق" قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر؛ فأنزل الله عز وجل فيهم: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } إلى آخر الآية.

قوله تعالى: { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } نصب على الحال. { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } الطّمْس استئصال أثر الشيء؛ ومنه قوله تعالى: { { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } [المرسلات: 8]. ونطمِس ونطمُس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان. ويقال في الكلام: طَسَم يَطْسِم ويَطْسُم بمعنى طَمَس؛ يقال: طَمَس الأثرُ وطَسَم أي ٱمّحى، كله لغات؛ ومنه قوله تعالى: { { رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ } [يونس: 88] أي أهلكها؛ عن ابن عرفة. ويقال: طَمَسته فطَمَس لازم ومتعد. وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين؛ ومنه قوله تعالى: { { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } [يسۤ: 66] يقول أعميناهم.

واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين. أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسَلْبِهِم التوفيق؟ قولان. رُوي عن أُبيّ بن كعب أنه قال: { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ } من قبل أن نضلكم إضلالاً لا تهتدون بعده. يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبةً. وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء. أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب؛ هذا معناه عند أهل اللغة. ورُوي عن ابن عباس وعطية العَوْفيّ: أن الطّمس أن تُزال العينان خاصّةً وتردّ في القفا، فيكون ذلك رَدّاً على الدبر ويمشي القَهْقَرَى. وقال مالكرحمه الله : كان أوّل إسلام كعب الأحبار أنه مَر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ } فوضع كفّيه على وجهه ورجع القَهْقَرَى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خِفت ألا أبلغ بيتي حتى يُطمَس وجهي. وكذلك فعل عبد الله بن سَلاَم، لمّا نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أدري أن أصل إليك حتى يحوّل وجهي في قفاي. فإن قيل: كيف جاز أن يهدّدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؛ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المُبَرِّد: الوعيد باق منتظر. وقال: لا بدّ من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.

قوله تعالى: { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } أي أصحاب الوجوه { كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ } أي نمسخهم قِردةً وخنازير؛ عن الحسن وقتادة. وقيل: هو خروج من الخطاب إلى الغيبة. { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي كائناً موجوداً. ويراد بالأمر المأمورُ فهو مصدر وقع موقع المفعول؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده. وقيل: معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به.

قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا { { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } [الزمر: 53] فقال له رجل: يا رسول الله والشرك! فنزل { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }. وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأُمة. { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه. فقال محمد بن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحبِ كبيرةٍ ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شِرْكاً بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بين الله تعالى ذلك بقوله: { { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [النساء: 31] فأعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخةٌ لِلّتِي في آخر «الفرقان». قال زيد بن ثابت: نزلت سورة «النساء» بعد «الفرقان» بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل. وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي «الفرقان» إن شاء الله تعالى. وفي التّرمذيّ عن عليّ بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه الآية { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } قال: هذا حديث حسن غريب.

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } فيه ثلاث مسائل.

الأُولى ـقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأوّلين في أن المراد اليهود. واختلفوا في المعنى الذي زَكّوا به أنفسهم؛ فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم: { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }، وقولهم: { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } وقال الضّحاك والسُّدِّي: قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهاراً غُفر لنا ليلاً وما فعلناه ليلاً غفر لنا نهاراً، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب. وقال مجاهد وأبو مالك وعِكْرمة: تقديمهم الصغار للصلاة؛ لأنهم لا ذنوب عليهم. وهذا يبعد من مقصد الآية. وقال ابن عباس: ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا. وقال عبد الله بن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض. وهذا أحسن ما قيل؛ فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية: التطهير والتبرية من الذنوب.

الثانية ـ هذه الآية وقولُه تعالى: { { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [النجم: 32] يقتضي الغَضّ من المُزَكّي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزّاكِي المُزَكَّى من حسنت أفعاله وزكّاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له. وفي صحيح مسلم "عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمّيت ٱبنتي بَرّةَ؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسمّيت بَرّة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُزكّوا أنفسكم الله أعلم بأهل البِر منكمفقالوا: بِمَ نسميها؟ فقال: سمّوها زينب" . فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسَه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسَهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكيّ الدين ومُحْيي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئاً.

الثالثة ـ فأما تزكية الغير ومدحُه له؛ ففي البخاريّ من حديث أبي بكرة "أن رجلاً ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيراً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وَيْحَك قطعت عنق صاحبك ـ يقوله مراراً ـ إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل أحسِب كذا وكذا إن كان يَرى أنه كذلك وحَسِيبه الله ولا يزكِّي على اللَّهِ أحداً" فنهى صلى الله عليه وسلم أن يُفرِطَ في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكِبْر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَك قطعت عنق صاحِبك" . وفي الحديث الآخر: "قطعتم ظهر الرجل" حين وصفوه بما ليس فيه. وعلى هذا تأوّل العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: " ٱحْثُوا التراب في وجوه المدّاحين" أن المراد به المدّاحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويَفتنونه؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحَسَن والأمر المحمود ليكون منه ترغيباً له في أمثاله وتحريضاً للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمدّاح، وإن كان قد صار مادحاً بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النيات "والله يعلم المفسِد من المصلِح" . وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يَحْثُ في وجوه المدّاحين التراب، ولا أمر بذلك. كقول أبي طالب:

وأبيض يُستسقَى الغمامُ بوجههثِمَال اليتامى عِصْمة للأراملِ

وكمدح العباس وحسّان له في شعرهما، ومدَحه كعب بن زُهير، ومدح هو أيضاً أصحابه فقال: "إنكم لتَقِلون عند الطمع وتَكْثرون عند الفزع" . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: "لا تُطرُوني كما أطرتِ النصارى عيسى ابن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله" فمعناه لا تصفوني بما ليس فيّ من الصفات تلتمسون بذلك مَدْحِي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلّوا. وهذا يقتضي أن من رفع ٱمْراً فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعْتَد آثم؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } الضمير في «يُظْلَمُونَ» عائد على المذكورين ممن زكَّى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل. وغيرُ هذين الصنفين عُلِم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية. والفَتِيل الخيط الذي في شَقّ نواة التمرة؛ قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البُسْرة. وقال ابن عباس أيضاً وأبو مالك والسُّدِّي: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفّيك من الوسخ إذا فتلتهما؛ فهو فعِيل بمعنى مفعول. وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه شيئاً. ومثل هذا في التحقير قوله تعالى: { { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [النساء: 124] وهو النكتة التي في ظهر النّواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي. قال الشاعر يذمّ بعض الملوك:

تَجمعُ الجيْشَ ذا الأُلوف وتغْزُوثم لا تَرْزأ العدوّ فَتيلا

ثم عجب النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل: تزكيتهم لأنفسهم؛ عن ابن جُريج. وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد. والافتراء الاختلاق؛ ومنه ٱفترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه. وفَريَت الشيء قطعته. { وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } نصب على البيان. والمعنى تعظيم الذنب وذمه. والعرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم.

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ } يعني اليهود { يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّاغُوتِ } اختلف أهل التأويل في تأويل الجِبْت والطاغوت؛ فقال ابن عباس وابن جُبير وأبو العالية: الجِبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن. وقال الفاروق عمر رضي الله عنه: الجِبت السحر والطاغوت الشيطان. ابن مسعود: الجِبت والطاغوت هٰهنا كعب بن الأشرف وحُيَي بن أخطب. عِكرمة: الجِبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف؛ دليله قوله تعالى: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ }. قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن. وروى ٱبن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عُبد من دون الله. قال: وسمعت من يقول إن الجِبت الشيطان؛ ذكره النحاس. وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله؛ وهذا حسن. وأصل الجِبت الجِبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين؛ قاله قُطْرُب. وقيل: الجِبت إبليس والطاغوتُ أولياؤه. وقول مالك في هذا الباب حَسَن؛ يدل عليه قوله تعالى: { { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [النحل: 36] وقال تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [الزمر: 17]. وروى قَطَن بن المخارِق عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطَّرْق والطِّيَرة والعِيافة من الجبت" . الطّرق الزجر، والعِيافة الخط؛ خرّجه أبو داود في سننه. وقيل: الجبت كل ما حرم الله، والطاغوت كل ما يطغى الإنسان. والله أعلم.

قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلاً من الذين آمنوا بمحمد. وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أُحُد ليحالفوا قريشاً على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دُور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعنّ على قتال محمد؛ فقال أبو سفيان: إنك ٱمرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أُمِّيُّون لا نعلم، فأينّا أهدى سبيلاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد.

قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ } أي أَلَهم؟ والميم صلة. «نَصِيبٌ» حظ «من الملك» وهذا على وجه الإنكار؛ يعني ليس لهم من المُلك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحداً منه شيئاً لبخلهم وحسدهم. وقيل: المعنى بل ألهم نصيب؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأوّل والاستئناف للثاني. وقيل: هي عاطفة على محذوف؛ لأنهم أنِفُوا من ٱتباع محمد صلى الله عليه وسلم. والتقدير: أهم أوْلى بالنبوّة ممن أرسلتهُ أم لهم نصيب من الملك؟.

{ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً } أي يمنعون الحقوق. خبّر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم. والنّقير: النكتة في ظهر النواة؛ عن ابن عباس وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس أيضاً: النقير: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض. وقال أبو العالية: سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير. والنقير: أصل خشبة يُنقَر ويُنبَذ فيه؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ. وفلان كريم النّقِير أي الأصل. و «إذاً» هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: «إذاً» في عوامل الأفعال بمنزلة «أظن» في عوامل الأسماء، أي تُلْغَى إذا لم يكن الكلام معتمداً عليها، فإن كانت في أوّل الكلام وكان الذي بعدها مستقبلاً نصبت؛ كقولك: أنا أزورك، فيقول مجيباً لك: إذاً أكرمَك. قال عبد الله بن عنَمَة الضَّبيّ:

أُرْدُدْ حِمارَك لا يرتع برَوْضَتِنَا إذَنْ يُرَدَّ وَقَيْدُ العَيْرِ مكروبُ

نصب لأن الذي قبل «إذن» تام فوقعت ابتداء كلام. فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك: زيد إذاً يزورك ألغيت؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجوز فيها الإعمال والإلغاء؛ أما الإعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذاً لا يؤتوا. وفي التنزيل { { وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ } [الإسراء: 76] وفي مصحف أُبَيّ «وإذاً لا يلبثوا». وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه «إذاً» لمضارعتها «أن»، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذاً. وزعم الفرّاء أن إذاً تكتب بالألف وأنها منوّنة. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يدَ مَن يكتب إذاً بالألف؛ إنها مثل لَنْ وأَنْ، ولا يدخل التنوين في الحروف.