التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
٨١
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً
٨٢
-النساء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي أمْرُنا طاعةٌ، ويجوز «طاعةً» بالنصب، أي نطيع طاعة، وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن والجَحْدرِي. وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين؛ أي يقولون إذا كانوا عندك: أمْرُنا طاعَةٌ، أو نطيع طاعةً، وقولهم هذا ليس بنافع؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم؛ فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها. { فَإِذَا بَرَزُواْ } أي خرجوا { مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } فذكّر الطائفة لأنها في معنى رجال. وأدغم الكوفيون التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير قبيح. ومعنى { بَيَّتَ } زَوّر ومَوّه. وقيل: غيّر وبدّل وحَرّف؛ أي بدّلوا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما عَهِده إليهم وأمرهم به. والتّبييت التبديل؛ ومنه قول الشاعر:

أتَوْنِي فلم أرْضَ ما بَيَّتُواوكانوا أتَوْنِي بأمرٍ نُكُرْ
لأُنكِحَ أَيِّمهم مُنْذراًوهل يُنكح العبدَ حُرٌّ لحُرْ

آخر:

بيَّتَ قولِيَ عبدُ المليـــك قاتله اللَّه عبداً كفوراً

وبيّت الرجل الأمر إذا دبّره ليلاً؛ قال الله تعالى: { { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ } [النساء: 108]. والعرب تقول: أمرٌ بُيِّت بليلٍ إذا أحكِم. وإنما خُصّ الليل بذلك لأنه وقت يُتفرّغ فيه. قال الشاعر:

أجمعوا أمرهم بليلٍ فلماأصبحوا أصبحت لهم ضَوضَاء

ومن هذا بيّت الصيام. والبَيُّوت: الماء يبِيت ليلاً. والبَيُّوت: الأمر يُبَيِّت عليه صاحبُه مُهْتَمّاً به؛ قال الهذلي:

وأجعلُ فِقْرتها عُدّةًإذا خِفْتُ بَيُّوتَ أمْرٍ عُضالِ

والتَّبْيِيتُ والبَيات أن يأتي العدوَّ ليلاً. وبات يفعل كذا إذا فعله ليلاً؛ كما يقال: ظل بالنهار. وبيَّت الشيء قَدّر. فإن قيل: فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال: { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ }؟ قيل: إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك. وقيل: إنما عبّر عن حال من شَهِد وحار في أمره، وأما من سمع وسكت فلم يذكره. والله أعلم. { وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه. وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. وفي هذه الآية دليل على أن مجرّد القول لا يفيد شيئاً كما ذكرنا؛ فإنهم قالوا: طاعة، ولَفَظُوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها؛ لأنهم لم يعتقدوها. فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعاً إلا باعتقادها مع وجودها.

قوله تعالى: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً. أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ } قوله تعالى: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي لا تخبر بأسمائهم؛ عن الضحاك، يعني المنافقين. وقيل: لا تعاقبهم. ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوّه. ويقال: إن هذا منسوخ بقوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } [التوبة: 73] ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبّر في القرآن والتفكّر فيه وفي معانيه. تدبّرت الشيء فكّرت في عاقبته. وفي الحديث: "لا تَدَابَرُوا" أي لا يولي بعضكم بعضاً دُبرُه. وأدبر القومُ مضى أمرهم إلى آخره. والتدبير أن يُدبِّر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلّت هذه الآية وقوله تعالى: { { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [محمد: 24] على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه. فكان في هذا ردّ على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يُتأوّل على ما يسوغه لسان العرب. وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد، وفيه دليل على إثبات القياس.

قوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } أي تفاوتا وتناقضا؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظِ الأمثال والدلالات ومقادير السُّوَر والآيات. وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت. وقيل: المعنى لو كان ما تُخْبرون به من عند غير الله لاختلفَ. وقيل: إنه ليس من متكلم يتكلم كلاماً كثيراً إلا وجد في كلامه اختلاف كثير؛ إما في الوصف واللفظ، وإما في جَودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب. فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبُّره؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافاً في وَصْفٍ ولا رَدّاً له في معنًى، ولا تناقضاً ولا كذباً فيما يخبرون به من الغيوب وما يُسَرُّون.