التفاسير

< >
عرض

فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
٨٨
-النساء

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } { فِئَتَيْنِ } أي فرقتين مختلفتين. روى مسلم عن زيد بن ثابت: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فقال بعضهم: نقتلهم. وقال بعضهم: لا؛ فنزلت { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }" . وأخرجه التّرمذيّ فزاد: وقال: "إنها طِيبة" وقال: "إنها تَنْفِي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد" قال: «حديث حسن صحيح». وقال البخاريّ: "إنها طيِبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة" . والمعنِيّ بالمنافقين هنا عبد الله بن أُبيّ وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا؛ كما تقدّم في «آل عمران». وقال ابن عباس: هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة، قال الضحاك: وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحبّ إلينا. فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولَّوْنهم وقوم يتبرّؤون منهم؛ فقال الله عز وجل { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }. وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام، فأصابهم وَباءُ المدينة وحُمَّاها؛ فأرْكِسوا فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لكم رجعتم؟ فقالوا: أصابنا وباء المدينة فٱجْتَوَيْناها؛ فقالوا: ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسْوَة؟ فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون؛ فأنزل الله عز وجل { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ } الآية. حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ٱرتدّوا بعد ذلك، فٱستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتَّجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون؛ فبيّن الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم.

قلت: وهذان القولان يَعْضُدهُما سياق آخر الآية من قوله تعالى: «حَتَّى يُهَاجِرُوا»، والأوّل أصح نقلاً، وهو اختيار البخاريّ ومسلم والترمذي. و «فِئَتَيْنِ» نصب على الحال؛ كما يقال: مالك قائماً؟ عن الأخفش. وقال الكوفيون: هو خبر «ما لكم» كخبر كان وظننت، وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء: «أرْكسهم، وَرَكَسَهم» أي ردّهم إلى الكفر ونكسهم؛ وقاله النّضر بن شُمَيل والكسائي: والرّكس والنكس قلب الشيء على رأسه، أو ردّ أوّله على آخره، والمركوس المنكوس. وفي قراءة عبد الله وأُبَيّ رضي الله عنهما «والله رَكَسهم». وقال ابن رَوَاحة:

أُرْكِسوا في فِتْنَةٍ مُظلمةٍكَسَوادِ الليل يَتْلُوها فِتَنْ

أي نكسوا. وارتكس فلان في أمر كان نجا منه. والرُّكُوسِيَّة قوم بين النصارى والصابئين. والراكِس الثَّور وسَط البَيْدَر والثيران حواليه حين الديِّاس. { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ } أي ترشدوه إلى الثواب بأن يُحْكم لهم بحكم المؤمنين. { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي طريقاً إلى الهُدَى والرّشد وطلب الحجة. وفي هذا ردّ على القَدرية وغيرهم القائلين بخلق هُداهم وقد تقدّم.