التفاسير

< >
عرض

وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ
٢٢
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ
٢٣
فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ
٢٤
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
٢٥
-فصلت

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم: ويجوز أن يكون من قول الله عز وجل أو الملائكة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر؛ قرشيان وثَقَفيّ أو ثَقَفِيّان وقرشيّ؛ قليلٌ فِقْهُ قلوبهم، كثيرٌ شحمُ بطونهم: فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا؛ وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا؛ فأنزل الله عز وجل: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ } الآية؛ خرجه الترمذي فقال: اختصم عند البيت ثلاثة نفرٍ. ثم ذكره بلفظه حرفاً حرفاً وقال: حديث حسن صحيح؛ حدّثنا هَنّاد قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عِمارة بن عُمَير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفرٍ كثيرٌ شحمُ بطونهم قليلٌ فِقهُ قلوبِهم، قرشيّ وخَتَناه ثَقَفِيّان، أو ثَقفيّ وخَتَناه قرشيان، فتكلموا بكلام لم أفهمه؛ فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا، فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذ لم نرفع أصواتنا لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئاً سمعه كله! فقال عبد الله: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } إلى قوله: { فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الثعلبي: والثقفيّ عبدُ يَا لِيل، وخَتَناه ربيعة وصفوان بن أمية. ومعنى «تَسْتَتِرُونَ» تستخفون في قول أكثر العلماء؛ أي ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذراً من شهادة الجوارح عليكم؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عملَه، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية. وقيل: الاستتار بمعنى الاتقاء؛ أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفاً من هذه الشهادة. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة: «وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ» أي تظنون «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ» بأن يقول سمعت الحقّ وما وعيت وسمعت ما لا يجوز من المعاصي «وَلاَ أَبْصَارُكُمْ» فتقول رأيت آيات الله وما اعتبرت ونظرت فيما لا يجوز «وَلاَ جُلُودُكُمْ» تقدّم. { وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } من أعمالكم فجادلتم على ذلك حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم. روى بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:

{ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } قال: "إنكم تُدْعون يوم القيامة مُفَدَّمة أفواهُكم بفِدام فأول ما يبين عن الإنسان فخذه وكفه" قال عبد الله بن عبد الأعلى الشامي فأحسن:

الْعُمْرُ يَنْقُصُ والذُّنُوبُ تَزيدُوتُقالُ عَثْراتُ الفتى فيعودُ
هل يستطِيعُ جُحُودَ ذنبٍ واحِدٍرجلٌ جوارِحُه عليهِ شُهودُ
والمرءُ يسأل عن سِنيهِ فيشتهِيتقلِيلَها وعنِ المماتِ يحِيدُ

وعن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادى فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل غداً عليك شهيد فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً فإني لو قد مضيت لم ترني أبداً ويقول الليل مثل ذلك" ذكره أبو نعيم الحافظ وقد ذكرناه في كتاب «التذكرة» في باب شهادة الأرض والليالي والأيام والمال. وقال محمد بن بشير فأحسن:

مَضَى أمسُك الأدْنى شَهيداً معدَّلاويومُك هذا بِالفِعال شهيدُ
فإنْ تكُ بِالأمسِ اقترفت إِساءةًفثَنِّ بِإحسانٍ وأنتَ حميدُ
ولا تُرْجِ فِعلَ الخير مِنك إِلى غدٍلعلّ غداً يأتِي وأنت فَقِيدُ

قوله تعالى: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي أهلككم فأوردكم النار. قال قتادة: الظنّ هنا بمعنى العلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله فإن قوماً أساؤوا الظن بربهم فأهلكهم" فذلك قوله: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ }. وقال الحسن البصري: إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم:إني أحسن الظن بربي وكذب، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، وتلا قول الله تعالى: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ }. وقال قتادة: من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظن بربه فليفعل، فإن الظن اثنان ظنّ ينجي وظنّ يردي. وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية: هؤلاء قوم كانوا يدمنون المعاصي ولا يتوبون منها ويتكلمون على المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، ثم قرأ { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ }.

قوله تعالى: { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم. نظيره: { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } [البقرة: 175] على ما تقدّم. { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ } في الدنيا وهم مقيمون على كفرهم { فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ }. وقيل: المعنى «فَإِنْ يَصْبِرُوا» في النار أو يجزعوا «فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ» أي لا محيص لهم عنها، ودل على الجزع قوله: { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ }؛ لأن المستعتب جزع والمعتب المقبول عتابه؛ قال النابغة:

فإنْ أَكُ مَظْلُوماً فَعَبْدٌ ظَلَمْتَهوإِنْ تَكُ ذَا عُتْبَى فَمِثْلكَ يُعْتِبُ

أي مثلك من قَبِل الصلح والمراجعة إذا سُئِل. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجِدة. تقول: عاتبته معاتبة، وبينهم أُعْتوبة يتعاتبون بها. يقال: إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. وأعتبني فلان: إذا عاد إلى مَسرَّتي راجعاً عن الإِساءة، والاسم منه الْعُتْبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب. واستعتب وأعتب بمعنى، واستعتب أيضاً طلب أن يُعْتَب؛ تقول: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. فمعنى «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا» أي طلبوا الرضا لم ينفعهم ذلك بل لا بد لهم من النار. وفي التفاسير: وإن يستقيلوا ربهم فما هم من المقالين. وقرأ عبيد بن عمير وأبو العالية «وَإِنْ يُسْتَعْتَبُوا» بفتح التاء الثانية وضم الياء على الفعل المجهول «فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتِبِينَ» بكسر التاء أي إن أقالهم الله وردّهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته لِما سبق لهم في علم الله من الشقاء، قال الله تعالى: { { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [الأنعام: 28] ذكره الهروي. وقال ثعلب: يقال أعتب إذا غضب وأعتب إذا رضي.

قوله تعالى: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ } قال النقاش: أي هيأنا لهم شياطين. وقيل: سلطنا عليهم قرناء يزيِّنون عندهم المعاصي، وهؤلاء القرناء من الجن والشياطين ومن الإنس أيضاً؛ أي سبَّبْنا لهم قرناء؛ يقال: قيَّض الله فلاناً لفلان أي جاءه به وأتاحه له، ومنه قوله تعالى: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ }. القشيري: ويقال قيّض الله لي رزقاً أي أتاحه كما كنت أطلبه، والتقييض الإبدال ومنه المقايضة، قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيِّضان كما تقول بيّعان. { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الدنيا فحسّنوه لهم حتى آثروه على الآخرة { وَمَا خَلْفَهُمْ } حسنّوا لهم ما بعد مماتهم ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة؛ عن مجاهد. وقيل: المعنى «قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ» في النار «فَزيَّنُوا لَهُمْ» أعمالهم في الدنيا؛ والمعنى قدّرنا عليهم أن ذلك سيكون وحكمنا به عليهم. وقيل: المعنى أحوجناهم إلى الأقران؛ أي أحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، والغني إلى الفقير ليستعين به فزيَّن بعضهم لبعض المعاصي. وليس قوله: { وَمَا خَلْفَهُمْ } عطفاً على { مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } بل المعنى وأنسوهم ما خلفهم ففيه هذا الإضمار. قال ابن عباس: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» تكذيبهم بأمور الآخرة «وَمَا خَلْفَهُمْ» التسويف والترغيب في الدنيا. الزجاج: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما عملوه «وَمَا خَلْفَهُمْ» ما عزموا على أن يعملوه. وقد تقدم قول مجاهد. وقيل: المعنى لهم مثل ما تقدّم من المعاصي «وما خلفهم» ما يعمل بعدهم. { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ } أي وجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم. وقيل: «في» بمعنى مع؛ فالمعنى هم داخلون مع الأمم الكافرة قبلهم فيما دخلوا فيه. وقيل: «فِي أُمَمٍ» في جملة أمم، ومثله قول الشاعر:

إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْفُوكاً فَفِي آخَرِين قد أَفكوا

يريد فأنت في جملة آخرين لست في ذلك بأوحد. ومحل «فِي أُمَمٍ» النصب على الحال من الضمير في ««عَلَيْهِمْ» أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم. { إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.