التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٢٨
-الزخرف

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } الضمير في «جَعَلَهَا» عائد على قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي }. وضمير الفاعل في «جَعَلَهَا» للّه عز وجل؛ أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه، وهم ولده وولد ولده؛ أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضاً في ذلك. والعقب من يأتي بعده. وقال السدي: هم آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: قوله: «فِي عَقِبِهِ» أي في خلفه. وفي الكلام تقديم وتأخير؛ المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه. أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إلٰه إلا الله. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال الضحاك: الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله. عكرمة: الإسلام؛ لقوله تعالى: { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } [الحج: 78]. القرظي: وجعل وصية إبراهيم التي وصّى بها بنيه وهو قوله: { يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ } [البقرة: 123] ـ الآية المذكورة في البقرة ـ كلمَةً باقية في ذريته وبنيه. وقال ابن زيد: الكلمة قوله: { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة: 131] وقرأ { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ }. وقيل: الكلمة النبوّة. قال ابن العربي: ولم تزل النبوّة باقية في ذرية إبراهيم. والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم.

الثانية ـ قال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين؛ إحداهما في قوله: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 124] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد. ثانيهما قوله: { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]. وقيل: بل الأولى قوله: { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [الشعراء: 84] فكل أمة تعظمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح.

الثالثة ـ قال ٱبن العربي: جرى ذكر العقب هاهنا موصولاً في المعنى، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العُمْرَى والتحبيس. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِر عُمْرَى له ولعقِبه فإنها للذي أعطِيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" . وهي تَرِد على أحد عشر لفظاً:

اللفظ الأوّل ـ الولد، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وُجد من الرجل وٱمرأته في الإناث والذكور. وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعاً؛ ولذلك وقع الميراث على الولد المعيّن وأولاد الذكور من المعيّن دون ولد الإناث لأنه من قوم آخرين، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ؛ قاله مالك في المجموعة وغيرها.

قلت: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدّمين، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ } [النساء: 11]. وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس؛ يقول المحبس: حبست على ولدي أو على عَقِبي. وهذا ٱختيار أبي عمر بن عبد البر وغيره؛ وٱحتجوا بقول الله جل وعز: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } [النساء: 23]. قالوا: فلما حَرَّم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه. وقد مضى هذا المعنى في «الأنعام» مستوفى.

اللفظ الثاني ـ البنون؛ فإن قال: هذا حبس على ابني؛ فلا يتعدّى الولد المعين ولا يتعدّد. ولو قال ولدي، لتعدّى وتعدّد في كل من ولد. وإن قال على بنيّ، دخل فيه الذكور والإناث. قال مالك: من تصدّق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك. روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه. والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين. فإن قيل: فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحسن ٱبن ٱبنته: "إن ابني هذا سيّدٌ ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" . قلنا: هذا مجاز، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه؛ ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بٱبني؛ ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه؛ لأن الحقائق لا تنفى عن منتسباتها. ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه؛ ولذلك قيل في عبد الله بن عباس: إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية.

قلت: هذا الاستدلال غير صحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ }. وقال تعالى: { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ـ إلى قوله ـ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [الأنعام: 84 - 85] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدّم بيانه هناك. فإن قيل فقد قال الشاعر:

بنونا بنو أبنائنا، وبناتنابنوهن أبناء الرجال الأباعد

قيل لهم: هذا لا دليل فيه؛ لأن معنى قوله: إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك؛ إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات ٱسم الولد لأنه ٱبن؛ وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بٱبني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقاً، ولا يريد بذلك نفي ٱسم الولد عنه، وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه. ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولداً فقد أفسد معناه وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح؛ إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ٱبناً، ولا يسمى ولد الاْبنة ٱبناً؛ من أجل أن معنى الولادة التي ٱشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى لأن ولد الاْبنة هو ولدها بحقيقة الولادة، وولد الإبن إنما هو ولده بماله مما كان سبباً للولادة. ولم يخرج مالكرحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان، وإنما أخرجهم منه قياساً على الموارثة. وقد مضى هذا في «الأنعام» والحمد لله.

اللفظ الثالث ـ الذرية؛ وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق؛ فيدخل فيه ولد البنات لقوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ـ إلى أن قال ـ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ }. وإنما كان من ذريته من قبل أمه. وقد مضى في «البقرة» ٱشتقاق الذرية وفي «الأنعام» الكلام على «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» الآية؛ فلا معنى للإعادة.

اللفظ الرابع ـ العقب؛ وهو في اللغة عبارة عن شيء بعد شيء كان من جنسه أو من غير جنسه؛ يقال: أعقب الله بخير؛ أي جاء بعد الشدّة بالرخاء. وأعقب الشيبُ السواد. وعَقَب يَعْقُب عقوباً وعَقْباً إذا جاء شيئاً بعد شيء؛ ولهذا قيل لولد الرجل: عَقِبه. والمِعْقَاب من النساء: التي تلد ذكراً بعد أنثى، هكذا أبداً. وعقب الرجل: ولده وولد ولده الباقون بعده. والعاقبة الولد؛ قال يعقوب: في القرآن { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [الزخرف: 28] وقيل: بل الورثة كلهم عَقْب. والعاقبة الولد؛ ولذلك فسّره مجاهد هنا. وقال ابن زيد: هاهنا هم الذرية. وقال ابن شهاب: هم الولد وولد الولد. وقيل غيره على ما تقدّم عن السُّدي. وفي الصحاح والعقب (بكسر القاف) مؤخر القدم وهي مؤنثة. وعقب الرجل أيضاً ولده وولد ولده. وفيه لغتان: عَقِب وعَقْب (بالتسكين) وهي أيضاً مؤنثة، عن الأخفش. وعَقَب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه؛ وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [الواقعة: 2]. ولا فرق عند أحد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى. واختلف في الذرّية والنسل فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب؛ لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك. وقيل: إنهم يدخلون فيهما. وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي «الأنعام».

اللفظ الخامس ـ نسلي؛ وهو عند علمائنا كقوله: ولدي وولد ولدي؛ فإنه يدخل فيه ولد البنات. ويجب أن يدخلوا؛ لأن نَسَل بمعنى خرج، وولد البنات قد خرجوا منه بوجهٍ، ولم يقترن به ما يخصه كما ٱقترن بقوله عَقْبى ما تناسلوا. وقال بعض علمائنا: إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه ولد البنات؛ إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي، كما إذا قال: عقبي وعقب عقبي، وأما إذا قال ولدي أو عقبي مفرداً فلا يدخل فيه البنات.

اللفظ السادس ـ الآل؛ وهم الأهل؛ وهو اللفظ السابع. قال ابن القاسم: هما سواء، وهم العَصَبة والإخوة والبنات والعمات؛ ولا يدخل فيه الخالات. وأصل أهل الاجتماعُ، يقال: مكانٌ آهل إذا كان فيه جماعة، وذلك بالعصبة ومن دخل في القُعْدَد من النساء، والعصبة مشتقة منه وهي أخص به. وفي حديث الإفك: يا رسول الله، أَهْلُك ولا نعلم إلا خيراً؛ يعني عائشة. ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل؛ لأن ثبوتها ليس بيقين إذ قد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق. وقد قال مالك: آل محمد كلُّ تقي؛ وليس من هذا الباب. وإنما أراد أن الإيمان أخص من القرابة فٱشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة. وقد قال أبو إسحاق التونسي: يدخل في الأهل كل من كان من جهة الأبوين، فوفّى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال. وهذه المعاني إنما تبنى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الإطلاق، فهذان لفظان.

اللفظ الثامن ـ قرابة، فيه أربعة أقوال: الأوّل ـ قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس: إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد؛ ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات. الثاني ـ يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه؛ قاله علي بن زياد. الثالث ـ قال أشهب: يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء. الرابع ـ قال ابن كنانة: دخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت. وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: { { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } [الشورى: 23] قال: إلا أن تصِلوا قرابة ما بيني وبينكم. وقال: لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم قرابة؛ فهذا يضبطه والله أعلم.

اللفظ التاسع ـ العشيرة؛ ويضبطه الحديث الصحيح: إن الله تعالى لما أنزل: { { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم ـ كما تقدّم ذكره ـ وهم العشيرة الأقربون؛ وسواهم عشيرة في الإطلاق. واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد، كما تقدم من قول علمائنا.

اللفظ العاشر ـ القوم؛ يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء. والقوم يشمل الرجال والنساء؛ وإن كان الشاعر قد قال:

وما أدري وسوف إخال أدريأقوم آلِ حِصْن أم نساء

ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال، وإذا دعاهم للحُرْمة دخل فيهم الرجال والنساء؛ فتعمّمه الصفة وتخصصه القرينة.

اللفظ الحادي عشر ـ الموالي؛ قال مالك: يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه. وقال ابن وهب: يدخل فيه أولاد مواليه. قال ابن العربي: والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء؛ قال: وهذه فصول الكلام وأصوله المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له؛ والتفريع والتتميم في كتاب المسائل، والله أعلم.