التفاسير

< >
عرض

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
٣٧
وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ
٣٨
مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٩
-الدخان

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى:{ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } هذا استفهام إنكار؛ أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب؛ إذ ليسوا خيراً من قوم تبع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء. وقيل: المعنى أهم أظهر نعمة وأكثر أموالاً أم قوم تُبَّع. وقيل: أهم أعزّ وأشدّ وأمنع أم قوم تُبّع. وليس المراد بتُبّع رجلاً واحداً بل المراد به ملوك اليمن؛ فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة. فتُبَّعْ لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكِسْرَى للفُرْس، وقَيْصر للروم. وقال أبو عبيدة: سُمِّيَ كل واحد منهم تُبَّعاً لأنه يتبع صاحبه. قال الجوهري: والتبابعة ملوك اليمن، واحدهم تُبّع. والتُّبَّع أيضاً الظِّل؛ وقال:

يَرد المياه حضِيرةً ونَفِيضةًوِرْدَ القطَاة إذا ٱسْمَألّ التُّبَّع

والتبع أيضاً ضرب من الطير. وقال السهيلي: تُبّع اسمٌ لكل مَلِك مَلَكَ اليمن والشِّحْر وحضرموت. وإن مَلكَ اليمن وحدها لم يقل له تُبّع؛ قاله المسعودي. فمن التبابعة: الحارث الرائش، وهو ابن همال ذي سدد. وأبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الأذعار. وشمر بن مالك، الذي تنسب إليه سَمَرْقَنْد. وأفريقيس بن قيس، الذي ساق البربر إلى أفريقية من أرض كنعان، وبه سميت إفريقية.

والظاهر من الآيات: أن الله سبحانه إنما أراد واحداً من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشدّ من معرفة غيره؛ ولذلك قال عليه السلام: "ولا أدري أتُبّع لَعِينٌ أم لا" . ثم قد روي عنه أنه قال: "لا تَسُبُّوا تُبَّعاً فإنه كان مؤمناً" . فهذا يدلّك على أنه كان واحداً بعينه؛ وهو ـ والله أعلم ـ أبو كرب الذي كسا البيت بعدما أراد غزوه، وبعدما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم ٱنصرف عنها لمّا أخبر أنها مُهاجَر نبيّ ٱسمه أحمد. وقال شعراً أودعه عند أهلها؛ فكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدّوْهُ إليه. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد. وفيه:

شهدت على أحمد أنهرسول من الله باري النَّسَمْ
فلو مُدّ عمري إلى عمرهلكنت وزيراً له وٱبنَ عَمْ

وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم أنه حُفر قبر له بصنعاء ـ ويقال بناحية حمير ـ في الإسلام، فوجِد فيه امرأتان صحيحتان، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب «هذا قبر حُبَّى ولَميس» ويروى أيضاً: «حبى وتماضر» ويروى أيضاً: «هذا قبر رضوى وقبر حُبّى ابنتا تبع، ماتتا وهما تشهدان أن لا إلٰه إلا الله ولا يشركان به شيئاً؛ وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما».

قلت: وروى ابن إسحاق وغيره أنه كان في الكتاب الذي كتبه: «أما بعد، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربّك وربّ كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربّك من شرائع الإسلام؛ فإن أدركتك فبِها ونِعمت، وإن لم أدركك فٱشفع لي ولا تنسني يوم القيامة؛ فإني من أمتك الأوّلين وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام». ثم ختم الكتاب ونقش عليه: { لِلَّهِ اْلأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد } [الروم:4]. وكتب على عنوانه «إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله، خاتم النبيّين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. من تُبّع الأول». وقد ذكرنا بقيّة خبره وأوّله في «اللمع اللؤلؤية شرح العشر بينات النبوية» للفارابيرحمه الله . وكان من اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي بعث فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص.

واختلف هل كان نبِيًّا أو مَلِكاً؛ فقال ابن عباس: كان تُبّع نبيًّا. وقال كعب: كان تبع ملِكاً من الملوك، وكان قومه كُهَّاناً وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمر الفريقين أن يقرّب كل فريق منهم قُرْبَاناً ففعلوا، فَتُقُبّل قربان أهل الكتاب فأسلم. وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تسبّوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً. وحكى قتادة أن تبعاً كان رجلاً من حِمير، سار بالجنود حتى عبر الحِيرة وأتى سَمَرْقَنْد فهدمها، حكاه الماوردي. وحكى الثعلبي عن قتادة أنه تبع الحِميري، وكان سار بالجنود حتى عبر الحِيرة. وبنى سَمَرْقَنْد وقتل وهدم البلاد. وقال الكلبي: تبع هو أبو كَرِب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعاً لأنه تَبِع مَن قبله. وقال سعيد بن جُبَير: هو الذي كسا البيت الحِبَرات. وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمّه، وضرب بهم لقريش مثلاً لقربهم من دارهم وعِظمهم في نفوسهم؛ فلما أهلكهم الله تعالى ومَن قبلهم ـ لأنهم كانوا مجرمين ـ كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك. وافتخر أهل اليمن بهذه الآية، إذ جعل الله قوم تبع خيراً من قريش. وقيل: سُمِّيَ أوّلهم تبعاً لأنه ٱتبع قرن الشمس وسافر في الشرق مع العساكر.

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ } «الَّذِينَ» في موضع رفع عطف على «قَوْمُ تُبَّعٍ». «أَهْلَكْنَاهُمْ» صلته. ويكون «مِنْ قَبْلِهِمْ» متعلقاً به. ويجوز أن يكون «مِنْ قَبْلِهِمْ» صلة «الَّذِينَ» ويكون في الظرف عائد إلى الموصول. وإذا كان كذلك كان «أَهْلَكْنَاهُمْ» على أحد أمرين: إمّا أن يقدّر معه «قد» فيكون في موضع الحال. أو يقدر حذف موصوف؛ كأنه قال: قوم أهلكناهم. والتقدير أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاءِ المذكورين قدرنا على إهلاك المشركين. ويجوز أن يكون «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» ابتداء خبره «أَهْلَكْنَاهُمْ». ويجوز أن يكون «الَّذِينَ» في موضع جر عطفاً على «تُبَّعٍ» كأنه قال: قوم تبع المهلكين من قبلهم. ويجوز أن يكون «الَّذِينَ» في موضع نصب بإضمار فعل دلّ عليه «أَهْلَكْنَاهُمْ». والله أعلم.

قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } أي غَافلين؛ قاله مقاتل. وقيل: لاهين؛ وهو قول الكلبي. { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي إلا بالأمر الحق؛ قاله مقاتل. وقيل: إلا للحق؛ قاله الكلبي والحسن. وقيل: إلا لإقامة الحق وإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته. وقد مضى هذا المعنى في «الأنبياء». { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ } يعني أكثر الناس { لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك.