التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
١٨
-الأحقاف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ } أي أن أبعث. { وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي } قراءة نافع وحفص وغيرِهما «أُفٍّ» مكسور منوّن. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم «أفَّ» بالفتح من غير تنوين. الباقون بالكسر غير منوّن؛ وكلها لغات، وقد مضى في «بني إسرائيل». وقراءة العامة «أَتَعِدَاننِي» بنونين مخففتين. وفتح ياءه أهل المدينة ومكة. وأسكن الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام «أَتَعِدَانِّي» بنون واحدة مشدّدة؛ وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. والعامة على ضم الألف وفتح الراء من «أَنْ أُخْرَجَ». وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الألف وضم الراء. قال ابن عباس والسُّدِّي وأبو العالية ومجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل. وقال قتادة والسدي أيضاً: هو عبد الرحمٰن بن أبي بكر قبل إسلامه، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث؛ فيردّ عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه؛ وكان هذا منه قبل إسلامه. وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبد الرحمٰن. وقال الحسن وقتادة أيضاً: هي نعت عبدٍ كافرٍ عاقٍّ لوالديه. وقال الزجاج: كيف يقال نزلت في عبد الرحمٰن قبل إسلامه والله عز وجل يقول: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ } [الأحقاف:8 1] أي العذاب، ومن ضرورته عدم الإيمان، وعبد الرحمٰن من أفاضل المؤمنين؛ فالصحيح أنها نزلت في عبدٍ كافر عاقٍّ لوالديه. وقال محمد بن زياد: كتب معاوية إلى مروان بن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد؛ فقال عبد الرحمٰن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هِرَقْلِيّة، أتبايعون لأبنائكم! فقال مروان: هو الذي يقول الله فيه: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } الآية. فقال: والله ما هو بِه، ولو شئت لسمّيت، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فَضَض من لعنة الله. قال المهدوِي: ومن جعل الآية في عبد الرحمٰن كان قوله بعد ذلك { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره؛ فأول الآية خاص وآخرها عام. وقيل إن عبد الرحمٰن لما قال: «وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُون مِنْ قَبْلِي» قال مع ذلك: فأين عبد الله بن جُدْعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون. فقوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } يرجع إلى أولئك الأقوام.

قلت: قد مضى من خبر عبد الرحمٰن بن أبي بكر في سورة «الأنعام» عند قوله: { { لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى } [الأنعام: 17] ما يدلّ على نزول هذه الآية فيه؛ إذ كان كافراً وعند إسلامه وفضله تعيّن أنه ليس المراد بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ }. { وَهُمَا } يعني والديه. { يَسْتَغثِيَانِ ٱللَّهَ } أي يدعوان الله له بالهداية. أو يستغيثان بالله من كفره؛ فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. وقيل: الاْستغاثة الدعاء؛ فلا حاجة إلى الباء. قال الفرّاء: أجاب الله دعاءه وغواثه. { وَيْلَكَ آمِنْ } أي صدّق بالبعث. { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي صدْق لا خلف فيه. { فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ } أي ما يقوله والداه. { إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له. { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } يعني الذين أشار إليهم ٱبن أبي بكر في قوله أحْيُوا لي مشايخ قريش، وهم المعنيّون بقوله: { وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي }. فأما ٱبن أبي بكر عبد الله أو عبد الرحمٰن فقد أجاب الله فيه دعاء أبيه في قوله: { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } على ما تقدم. ومعنى: «حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» أي وجب عليهم العذاب، وهي كلمة الله: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي». { فِيۤ أُمَمٍ } أي مع أمم. { قَدْ خَلَتْ } تقدّمت ومضت. { مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } الكافرين { إِنَّهُمْ } أي تلك الأمم الكافرة { كَانُواْ خَاسِرِينَ } لأعمالهم؛ أي ضاع سعيهم وخسِروا الجنة.