التفاسير

< >
عرض

قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٢٢
قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ
٢٣
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٤
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ
٢٥
-الأحقاف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى:{ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } فيه وجهان: أحدهما ـ لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني ـ لتصرفنا عن آلِهتنا بالمنع؛ قاله الضحاك. قال عُرْوة بن أُذَيْنة:

إن تك عن أحسن الصنيعة مأفُوكاً ففي آخرين قد أفِكوا

يقول: إن لم توفَّق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا. { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } هذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد. { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أنك نبيّ { قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ } بوقت مجيء العذاب. { عِندَ ٱللَّهِ } لا عندي { وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ } عن ربكم. { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } في سؤالكم ٱستعجال العذاب. { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً } قال المبرد: الضمير في «رَأَوْهُ» يعود إلى غير مذكور؛ وبيّنه قولُه: «عَارِضاً» فالضمير يعود إلى السحاب؛ أي فلما رأوا السحاب عارضاً. فـ «ـعارضاً» نصب على التكرير؛ سُمِّي بذلك لأنه يبدو في عرض السماء. وقيل: نصب على الحال. وقيل: يرجع الضمير إلى قوله: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } فلما رأوه حسبوه سحاباً يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عنهم، فلما رأوه «مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» ٱستبشروا. وكان قد جاءهم من وادٍ جرت العادة أن ما جاء منه يكون غَيْثاً؛ قاله ابن عباس وغيره. قال الجوهري: والعارض السحاب يعترض في الأفق؛ ومنه قوله تعالى: { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } أي ممطر لنا؛ لأنه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة. والعرب إنما تفعل مثل هذا في الأسماء المشتقة من الأفعال دون غيرها. قال جرير:

يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يطلبكملاقى مباعدةً منكم وحِرْمَانَا

ولا يجوز أن يقال: هذا رجل غلامنا. وقال أعرابي بعد الفطر: رُبَّ صائمة لن تصومه، وقائمة لن تقومه؛ فجعله نعتاً للنكرة وأضافه إلى المعرفة.

قلت: قوله: «لا يجوز أن يكون صفة لعارض» خلاف قول النحويين، والإضافة في تقدير الاْنفصال، فهي إضافة لفظية لا حقيقية؛ لأنها لم تفد الأوّل تعريفاً، بل الاْسم نكرة على حاله؛ فلذلك جرى نعتاً على النكرة. هذا قول النحويين في الآية والبيت. ونعت النكرة نكرة. و «رُبّ» لا تدخل إلا على النكرة. { بَلْ هُوَ } أي قال هود لهم. والدليل عليه قراءة من قرأ «قال هود بل هو» وقرىء «قُلْ بَلْ مَا ٱسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هِيَ رِيحٌ» أي قال الله: قل بل هو ما ٱستعجلتم به؛ يعني قولهم: «فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا» ثم بين ما هو فقال: { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظَّعِينة فترفعها كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس: أوّل ما رأوا العارض قاموا فمدّوا أيديهم، فأوّل ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، ولهم أنين؛ ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر؛ فهي التي قال الله تعالى فيها: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها. قال ابن عباس: أي كل شيء بُعثت إليه، والتدمير: الهلاك. وكذلك الدمار. وقرىء «يَدْمُرُ كُلّ شَيْء» من دَمَر دماراً. يقال: دَمره تدميراً ودماراً ودَمّر عليه بمعنًى. ودَمَر يَدْمُر دُموراً دخل بغير إذن. وفي الحديث: "من سبق طَرْفُه استئذانه فقد دَمَر" مخفف الميم. وتَدْمُر: بلد بالشام. ويَرْبُوع تَدْمُرِيّ إذا كان صغيراً قصيراً. { بِأَمْرِ رَبِّهَا } بإذن ربها. وفي البخاري "عن عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لَهَواتِه إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غَيْماً أو رِيحاً عُرف في وجهه. قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال:يا عائشة ما يُؤَمِّنُنِي أن يكون فيه عذاب عُذِّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا" خرجه مسلم والترمذيّ، وقال فيه: حديث حسن. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نُصِرت بالصَّبا وأهلِكت عادٌ بالدبور" . وذكر الماورديّ أن القائل «هَذَا عَارِض مُمْطِرُنَا» من قوم عاد: بكر بن معاوية؛ ولما رأى السحاب قال: إني لأرى سحاباً مرمداً، لا تدع من عاد أحداً. فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم. قال ابن إسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما يُلين أعلى ثيابهم. وتلتذ الأنفس به؛ وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدْمَغُهُم بالحجارة حتى هلكوا. وحكى الكلبيّ أن شاعرهم قال في ذلك:

فدعا هود عليهمدعوةً أضحَوْا همودا
عصفت ريح عليهمتركت عاداً خمودا
سخّرت سبع لياللم تدع في الأرض عودا

وعَمَّر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة. { فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } قرأ عاصم وحمزة «لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ» بالياء غير مسمى الفاعل. وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثِير إلا أنه قرأ «ترى» بالتاء. وقد روي ذلك عن أبي بكر عن عاصم. الباقون «ترى» بتاء مفتوحة. «مَسَاكِنَهُم» بالنصب؛ أي لا ترى يا محمد إلا مساكنهم. قال المهدوِيّ: ومن قرأ بالتاء غير مسمى الفاعل فعلى لفظ الظاهر الذي هو المساكن المؤنثة؛ وهو قليل لا يستعمل إلا في الشعر. وقال أبو حاتم: لا يستقيم هذا في اللغة إلا أن يكون فيها إضمار؛ كما تقول في الكلام ألا تُرى النساء إلا زينب. ولا يجوز لا ترى إلا زينب. وقال سيبويه: معناه لا ترى أشخاصهم إلا مساكنهم. وٱختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة عاصم وحمزة. قال الكسائي: معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم، فهو محمول على المعنى؛ كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى ما قام أحد إلا هند. وقال الفرّاء: لا يرى الناس لأنهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم لأنها قائمة. { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي مثل هذه العقوبة نعاقب بها المشركين.