التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً
٢٧
-الفتح

الجامع لاحكام القرآن

قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة؛ فلما صالح قريشاً بالحُدَيْبِيَة ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة؛ فأنزل الله تعالى: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ } فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتاً بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأنّ رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. { لَتَدْخُلُنَّ } أي في العام القابل { ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ } قال ٱبن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه؛ خوطب في منامه بما جرت به العادة؛ فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ولهذا استثنى؛ تأدّب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى: { { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الكهف:23]. وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال: «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ». وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب. وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قاله الحسين بن الفضل. وقيل: الاستثناء من «آمِنِينَ»، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل: معنى «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» إن أمركم الله بالدخول. وقيل: أي إن سهل الله. وقيل: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» أي كما شَاء الله. وقال أبو عبيدة: «إِنْ» بمعنى «إذ» أي إذ شاء الله، كقوله تعالى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [البقرة: 278] أي إذ كنتم. وفيه بعد، لأن «إذ» في الماضي من الفعل، و «إذا» في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلّقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية؛ فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا؛ ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتدّ عليهم وصالحهم ورجع؛ ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ }. وإنما قيل له في المنام: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ } فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام؛ فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و «لَتَدْخُلُنَّ» تحقيق فكيف يكون شك. فـ «ـإن» بمعنى «إذا». { آمِنِينَ } أي من العدوّ. { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } والتحليق والتقصير جميعاً للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في «البقرة». وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على المَرْوَة بمِشْقَص. وهذا كان في العمرة لا في الحج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجته. { لاَ تَخَافُونَ } حال من المحلقين والمقصِّرين، والتقدير: غير خائفين. { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خَيْبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوّة وعُدَّة بأضعاف ذلك. وقال الكلبي: أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل: علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم. { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر؛ قاله ٱبن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد: هو صلح الحديبية؛ وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية؛ لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضاً؛ فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يُكَلَّم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثلُ ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلّك على ذلك أنهم كانوا سنة ستٍّ يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف.