التفاسير

< >
عرض

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
٢٩
-الفتح

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } «مُحَمَّدٌ» مبتدأ و «رَسُولُ» خبره. وقيل: «مُحَمَّدٌ» ابتداء و «رَسُولُ اللَّهِ» نعته. { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } عطف على المبتدأ، والخبر فيما بعده؛ فلا يوقف على هذا التقدير على «رَسُولُ اللَّهِ». وعلى الأول يوقف على «رَسُولُ اللَّهِ»؛ لأن صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف أصحابه؛ فيكون «مُحَمَّدٌ» ابتداء و «رَسُولُ اللَّهِ» الخبر «وَالَّذِينَ مَعَهُ» ابتداء ثان. و «أَشِدَّاءُ» خبره و «رُحَمَاءُ» خبر ثان. وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الأشبه. قال ابن عباس: أهل الحديبية أشداء على الكفار؛ أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته. وقيل: المراد بـ «ـالَّذِينَ مَعَهُ» جميع المؤمنين. { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } أي يرحم بعضهم بعضاً. وقيل: متعاطفون متوادّون. وقرأ الحسن «أشداء على الكفار رحماء بينهم» بالنصب على الحال، كأنه قال: والذين معه في حال شدّتهم على الكفار وتراحمهم بينهم. { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً } إخبار عن كثرة صلاتهم. { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى.

الثانية ـ قوله تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } السيما العلامة؛ وفيها لغتان: المد والقصر؛ أي لاحت علامات التهجُّد بالليل وأمارات السهر. وفي سنن ابن ماجه قال: حدّثنا إسماعيل بن محمد الطلخي قال حدّثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" . وقال ابن العربي: ودَسّه قوم في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم على وجه الغلط، وليس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه ذكر بحرف. وقد روى ٱبن وهب عن مالك «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود؛ وبه قال سعيد بن جبير. وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وَكَفَ المسجد وكان على عريش؛ فٱنصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين. وقال الحسن: هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وقاله سعيد بن جبير أيضاً، ورواه العَوْفي عن ابن عباس، قاله الزهري. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وفيه: "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يُخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار مَن كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إلٰه إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود" . وقال شهر بن حَوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال ابن عباس ومجاهد: السيما في الدنيا وهو السَّمْت الحسن. وعن مجاهد أيضاً؛ هو الخشوع والتواضع. قال منصور: سألت مجاهداً عن قوله تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } أهو أثر يكون بين عيني الرجل؟ قال لا؛ ربما يكون بين عيني الرجل مثل رُكْبة العنز وهو أقسى قلباً من الحجارةٰ ولكنه نور في وجوههم من الخشوع. وقال ابن جُريج: هو الوقار والبهاء. وقال شَمِر بن عطية: هو صفرة الوجه من قيام الليل. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال الضحاك: أمَا إنه ليس بالنَّدْب في وجوههم ولكنه الصفرة. وقال سفيان الثَّوْرِيّ: يصلّون بالليل فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم؛ بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" . وقد مضى القول فيه آنفاً. وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس.

الثالثة ـ قوله تعالى: { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ } قال الفرّاء: فيه وجهان، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضاً؛ كمثلهم في القرآن؛ فيكون الوقف على «اْلإنْجِيلِ» وإن شئت قلت: تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتدأ فقال: ومثلهم في الإنجيل. وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل؛ فيوقف على هذا على «التَّوْرَاةِ». وقال مجاهد: هو مثل واحد؛ يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل، فلا يوقف على «التَّوْرَاةِ» على هذا، ويوقف على «اْلإنْجِيلِ»، ويبتدىء { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } على معنى وهم كزرع. و «شَطْأَهُ» يعني فراخه وأولاده، قاله ابن زيد وغيره. وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شَطَأه. قال الجوهري: شَطْءُ الزرع والنبات فراخه، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرعُ خرج شَطْؤه. قال الأخفش في قوله: «أَخْرَجَ شَطْأَهُ» أي طَرفَه. وحكاه الثعلبي عن الكسائي. وقال الفراء: أشطأ الزرعُ فهو مُشْطِىء إذا خرج. قال الشاعر:

أخرج الشطء على وجه الثرىومن الأشجار أفنان الثمر

الزجاج: أخرج شطأه أي نباته. وقيل: إن الشطء شوك السُّنْبُل، والعرب أيضاً تسميه: السَّفَا، وهو شَوْك البُهْمَى، قاله قُطْرُب. وقيل: إنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان؛ قاله الفراء، حكاه الماوردي. وقرأ ٱبن كثير وابن ذكوان «شَطَأه» بفتح الطاء؛ وأسكن الباقون. وقرأ أنس ونصر بن عاصم وٱبن وَثَّاب «شَطَاه» مثل عصاه. وقرأ الجحدريّ وٱبن أبي إسحاق «شَطَه» بغير همز؛ وكلها لغات فيها.

وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ يعني أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون؛ فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفاً فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قَوِيَ أمره؛ كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالاً بعد حال حتى يغلظ نباتُه وأفراخُه. فكان هذا من أصح مَثَل وأقوى بيان. وقال قتادة: مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف ويَنْهَوْن عن المنكر. { فَآزَرَهُ } أي قوّاه وأعانه وشدّه؛ أي قوّى الشطءُ الزرع. وقيل بالعكس، أي قوّى الزرع الشطء. وقراءة العامة «آزَرَهُ» بالمدّ. وقرأ ٱبن ذكوان وأبو حَيْوَة وحُميد بن قيس «فَأَزَرَهُ» مقصورة، مثل فَعَلَه. والمعروف المدّ. قال امرؤ القيس:

بمَحْنِيَة قد آزر الضّالَ نَبْتُهامَجَرّ جيوش غَانمين وخُيَّبِ

{ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقاً له. والسوق: جمع الساق. { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } أي يعجب هذا الزرع زرّاعه. وهو مَثَلٌ كما بيّنا، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطء أصحابه، كانوا قليلاً فكثروا، وضعفاء فَقَوُوا، قاله الضحاك وغيره. { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } اللام متعلقة بمحذوف؛ أي فعل الله هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.

الرابعة ـ قوله تعالى: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة. { مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } أي ثواباً لا ينقطع وهو الجنة. وليست «مِن» في قوله: «منهم» مبعّضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة مجنّسة، مثل قوله تعالى: { { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } [الحج:0 3] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتَّى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب، فأدخل «مِن» يفيد بها الجنس وكذا «منهم»، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة. ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس. وقد يخصص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بوعد المغفرة تفضيلاً لهم، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة. وفي الآية جواب آخر: وهو أن «من» مؤكدة للكلام؛ والمعنى وعدهم الله كلَّهم مغفرة وأجراً عظيماً. فجرى مجرى قول العربي: قطعت من الثوب قميصاً؛ يريد قطعت الثوب كله قميصاً. و «من» لم يبعض شيئاً. وشاهد هذا من القرآن { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ } [الإسراء:2 8] معناه وننزل القرآن شفاء؛ لأن كل حرف منه يشفي، وليس الشفاء مختصًّا به بعضه دون بعض. على أن من اللغويين من يقول: «من» مجنسة؛ تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن، ومن جهة القرآن، ومن ناحية القرآن. قال زهير:

أمن أمّ أوْفَى دِمْنَةٌ لم تَكَلَّم

أراد من ناحية أمّ أَوْفَى دِمْنَةٌ، أم من منازلها دِمْنَة. وقال الآخر:

أخُو رغائبَ يعطيها ويسألهايأبَى الظُّلامةَ منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ

فـ «ـمن» لم تُبَعِّض شيئاً، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نَوْفَلٌ زُفَرُ. والنَّوْفَل: الكثير العطاء. والزُّفَر: حامل الأثقال والمؤن عن الناس.

الخامسة ـ روى أبو عروة الزبيريّ من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } حتى بلغ { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ }. فقال مالك: مَن أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية؛ ذكره الخطيب أبو بكر.

قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردّ على الله رَبِّ العالمين، وأبطل شرائع المسلمين؛ قال الله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } الآية. وقال: { { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } [الفتح: 18] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادةَ لهم بالصدق والفلاح؛ قال الله تعالى: { { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب:3 2]. وقال: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً ـ إلى قوله ـ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [الحشر: 8]، ثم قال عز من قائل: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ـ إلى قوله ـ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [الحشر: 9]. وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الناسِ قَرْنِي ثم الذين يلونهم" وقال: "لا تَسُبُّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً لم يدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه" خرجهما البخاري. وفي حديث آخر: "فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مُدّ أحدهم ولا نَصيفه" . قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مدّ أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد؛ فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال لللعُشْر عَشِير، وللخُمس خميس، وللتسع تَسيع، وللثّمن ثَمين، وللسّبع سَبيع، وللسّدس سَدِيس، وللرّبع رَبيع. ولم تقل العرب للثلث ثليث. وفي البَزّار عن جابر مرفوعاً صحيحاً: "إن الله ٱختار أصحابي على العالمين سِوى النبيّين والمرسلين وٱختار لي من أصحابي أربعة ـ يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ـ فجعلهم أصحابي" . وقال: "في أصحابي كلِّهم خير" . وروى عُوَيم بن ساعدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عزّ وجل ٱختارني وٱختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختاناً وأصهاراً فمن سَبَّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناسِ أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدْلاً" . والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، فَحذَارِ من الوقوع في أحد منهم، كما فعل مَن طعن في الدين فقال: إن الْمُعَوِّذَتَيْن ليستا من القرآن، وما صحّ حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطّرحة. وهذا ردّ لما ذكرناه من الكتاب والسنّة، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من المِلّة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجُهَني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجراً عظيماً. فمن نسبه أو واحداً من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومتى ألحِق واحد منهم تكذيباً فقد سُبّ؛ لأنه لا عار ولا عَيْب بعد الكفر بالله أعظمُ من الكذب، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سَبّ أصحابه؛ فالمكذّب لأصغرهم ـ ولا صغير فيهم ـ داخلٌ في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزمها كلّ مَن سب واحداً من أصحابه أو طعن عليه. وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم؛ فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يُقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا هريرة مُتَّهَم فيما يرويه، وصَرّحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونَصَر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره؛ فنظر إليّ الرشيد نظر مُغْضِب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنّط وتكفّن! فقلت: اللَّهُم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيّك، وأجللت نبيّك أن يطعن على أصحابه، فَسلِّمني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه؛ بيده السيف وبين يديه النِّطْع؛ فلما بَصُرَ بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقّاني (أحد) من الرد والدفع (لقولي بمثل) ما تلقّيتني به! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلتَه وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم (وعلى ما جاء به)؛ إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كلّه مردود غير مقبول! فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله؛ وأمر لي بعشرة آلاف درهم.

قلت: فالصحابة كلّهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شِرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بُداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك؛ ثم تغيّرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء؛ فلا بُدّ من البحث. وهذا مردود؛ فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعليّ وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكّاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: { مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }. وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيّهم بإخبارهم لهم بذلك. وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة «الحجرات» مبيّنة إن شاء الله تعالى.