التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأُولى ـ قال علماؤنا: وجه ٱتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدّمت صفته ممن رَكَن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا ٱستقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحدٌ بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى.

الثانية ـ قوله تعالى: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي؛ تقول عليك زيداً بمعنى الزم زيداً؛ ولا يجوز عليه زيداً، بل إنما يجري هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ؛ عليك زيداً أي خذ زيداً، وعندك عمراً أي حضرك، ودونك زيداً أي قَرُب منك؛ وأنشد:

يا أيّها المَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا

وأما قوله: عليه رجلاً لَيْسَنِي، فشاذّ.

الثالثة ـ روى أبو داود والترمذيّ وغيرهما عن قيس قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا ٱهْتَدَيْتُمْ» وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأُوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده" . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ قال إسحاق بن إبراهيم سمعت عمرو بن عليّ يقول سمعت وَكِيعاً يقول: لا يصح عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حديث واحد، قلت: ولا إسماعيل عن قيس، قال: إن إسماعيل روى عن قيس موقوفاً. قال النقاش: وهذا إفراط من وَكِيع؛ رواه شعبة عن سفيان وإسحاق عن إسماعيل مرفوعاً؛ وروى أبو داود والترمذي وغيرهما "عن أبي أُمية الشعبانيّ قال: أتيت أبا ثعلبة الخشنيّ فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } قال أما واللَّهِ لقد سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ٱئتمروا بالمعروف وتَناهوا عن المنكر حتى إذا رأيتَ شُحّا مُطاعاً وهَوًى مُتَّبعاً ودنيا مُؤثَرة وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودع عنك أمر العامّة فإنّ من ورائكم أياماً الصبرُ فيهنّ مثلُ القبض على الجمر للعامل فيهنّ مثلُ أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم" "وفي رواية قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عبد البر قوله: "بل منكم" هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها، وقد تقدم. وروى الترمذيّ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم في زمان من ترَك منكم عُشْر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعُشْر ما أُمِر به نجا" قال: هذا حديث غريب. وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية: قولوا الحق ما قُبِل منكم، فإذا رُدّ عليكم فعليكم أنفسكم. وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمرْ ولم تَنهَ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "ليبلغ الشاهدُ الغائبَ" ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحقُّ لم يُقبل. في رواية عن ابن عمر بعد قوله: "ليبلّغ الشاهدُ الغائب" فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيَّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا، لم يقبل منهم. وقال ابن المبارك قوله تعالى: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } خطاب لجميع المؤمنين، أي عليكم أهل دينكم؛ كقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } فكأنّه قال: ليأمر بعضكم بعضاً؛ وليْنَه بعضكم بعضاً؛ فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب؛ وهذا لأن الأمر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدّم؛ وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير. وقال سعيد بن المسيب: معنى الآية لا يضركم من ضل إذا ٱهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن خُوَيزِمَنْدَاد: تضمنت الآية اشتغال الإنسان بخاصة نفسه، وتركه التعرض لمعائب الناس، والبحث عن أحوالهم؛ فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا كقوله تعالى: { { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر: 38]، { { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164 وفاطر: 18]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن جليس بيتك وعليك بخاصة نفسك" . ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه.

قلت: قد جاء حديث غريب رواه ابن لَهِيعة: قال حدثنا بكر بن سَوَادَة الجُذاميّ عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك" قال علماؤنا: إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان، وفساد الأحوال، وقلة المعينين. وقال جابر بن زيد: معنى الآية؛ يا أيها الذين آمنوا من أبناء أُولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب؛ عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدّين، لا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم؛ قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفَّهْت آباءَك وضلّلتهم وفعلتَ وفعلتَ؛ فأنزل الله الآية بسبب ذلك. وقيل: الآية في أهل الأهواء الذين لا ينفعهم الوعظ؛ فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم. وقيل: نزلت في الأسارى الذين عذّبهم المشركون حتى ٱرتدّ بعضهم، فقيل لمن بقي على الإسلام: عليكم أنفسكم لا يضركم ارتدادُ أصحابكم. وقال سعيد بن جبير: هي في أهل الكتاب ـ وقال مجاهد: في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم؛ يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدّوا الجِزية. وقيل: هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قاله المهدويّ. قال ابن عطية: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله.

قلت: قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم أنه قال: ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية. قال غيره: الناسخ منها قوله: { إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ }، والهدي هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم.

الرابعة ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعيّن متى رُجّي القبولُ، أو رُجي ردّ الظالم ولو بعنف، ما لم يخَفِ الآمرُ ضرراً يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين؛ إمّا بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس؛ فإذا خيف هذا فـ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } مُحْكَم واجب أن يوقف عنده. ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلاً كما تقدّم؛ وعلى هذا جماعة أهل العلم فٱعلمه.