التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١٤
يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
١٥
يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٦
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو مكتوب في الإنجيل. { فَنَسُواْ حَظّاً } وهو الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ أي لم يعملوا بما أُمِروا به، وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سبباً للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى { أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } هو كقولك: أخذت من زيد ثوبه ودرهمه؛ قاله الأخفش. ورتبة { ٱلَّذِينَ } أن تكون بعد { أَخَذْنَا } وقبل الميثاق؛ فيكون التقدير: أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم؛ لأنه في موضع المفعول الثاني لأخذنا. وتقديره عند الكوفيين: ومن الذين قالوا إنا نصارى مَن أخذنا ميثاقهم؛ فالهاء والميم تعودان على { ومَنَ } المحذوفة، وعلى القول الأوّل تعودان على { ٱلَّذِينَ }. ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى، ولا ألْيَنَهَا لبستُ من الثياب؛ لئلا يتقدّم مضمر على ظاهر. وفي قولهم: { إِنَّا نَصَارَىٰ } ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ٱبتدعوا النصرانية وتسمّوا بها؛ روي معناه عن الحسن.

قوله تعالى: { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ } أي هيجنا. وقيل: ألصقنا بهم؛ مأخوذ من الغِراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصّمغ وشبهه. يقال: غَرِيَ بالشيء يَغْرَى غَراً «بفتح الغين» مقصوراً وغِرَاء «بكسر الغين» ممدوداً إذا أولع به كأنه التصق به. وحكى الرّماني: الإغراء تسليط بعضهم على بعض. وقيل: الإغراء التحريش، وأصله اللصوق؛ يقال: غَرِيتُ بالرَّجل غَراً ـ مقصور وممدود مفتوح الأول ـ إذا لصِقت به. وقال كُثَيّر:

إذا قيل مهلاً قالت العين بالبكاغِرَاء ومدّتها حوافِلُ نُهّل

وَأَغْرَيْتُ زيداً بكذا حتى غِريَ به؛ ومنه الغِراء الذي يُغرى به للصوقه؛ فالإغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التّسليط عليه. وأَغْرَيْتُ الكلب أي أولعتُه بالصيد. { بَيْنَهُمُ } ظرف للعداوة. { وَٱلْبَغْضَآءَ } البغض. أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما. عن السُّدي وقَتَادة: بعضهم لبعض عدوّ. وقيل: أشار إلى ٱفتراق النصارى خاصة؛ قاله الربيع بن أنس، لأنهم أقرب مذكور؛ وذلك أنهم ٱفترقوا إلى اليعاقِبةِ والنُّسطورية والمَلْكانية؛ أي كفّر بعضهم بعضاً. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ } أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار. وقوله: { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ } تهديد لهم؛ أي سيلقون جزاء نقض الميثاق.

قوله تعالى: { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ } الكتاب ٱسم جنس بمعنى الكتب؛ فجميعهم مخاطبون. { قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا } محمد صلى الله عليه وسلم. { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } أي من كتبكم؛ من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مُسخوا قِردة؛ فإنهم كانوا يخفونها. { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوتهِ، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. وقيل: { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به. وذكر أن رجلاً من أحبارهم جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا هذا عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين؛ وإنما أراد اليهوديّ أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبيِّن له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده فذهب وقال لأصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبيِّن له ما سأله عنه. { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ } أي ضياء؛ قيل: الإسلام. وقيل: محمد عليه السلام؛ عن الزجاج. { وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } أي القرآن؛ فإنه يبين الأحكام، وقد تقدّم. { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } أي ما رضيه الله. { سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ } طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزَّهة عن كل آفة، والمؤمِّنة من كل مخافة؛ وهي الجنة وقال الحسن والسُّدي: { ٱلسَّلاَمِ } الله عزّ وجل؛ فالمعنى دين الله ـ وهو الإسلام ـ كما قال: { { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران: 19]. { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات. { بِإِذْنِهِ } أي بتوفيقه وإرادته.