التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث عشرة مسئلة:

الأُولى ـ قوله تعالى: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } خطاب للمؤمنين حقّاً؛ أي لا تَتَعدَّوا حدود الله في أمر من الأُمور. والشّعائر جمع شَعيرة على وزن فَعِيلة. وقال ٱبن فارس: ويقال للواحدة شِعَارة؛ وهو أحسن. والشعيرة البَدَنة تُهدى، وإشعارها أن يُجَزّ سَنامها حتى يسيل منه الدّم فيعلم أنها هَديٌ. والإشعار الإعلام من طريق الإحساس؛ يقال: أشعر هَدْيه أي جعل له علامة ليُعرف أنه هَدْيٌ؛ ومنه المشاعر المعالم، واحدها مَشعر وهي المواضع التي قد أُشعِرت بالعلامات. ومنه الشّعر؛ لأنه يكون بحيث يقع الشّعور؛ ومنه الشّاعر؛ لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره؛ ومنه الشّعير لشَعرته التي في رأسه؛ فالشّعائر على قولٍ ما أُشعر من الحيوانات لتُهْدى إلى بيت الله، وعلى قولٍ جميع مناسك الحجّ؛ قاله ٱبن عباس. وقال مجاهد: الصّفا والمَرْوة والهَديُ والبُدْن كل ذلك من الشعائر. وقال الشاعر:

نُقَتِّلهم جِيلاً فجِيلاً تراهُمُشَعَائِرَ قُرْبَانٍ بها يُتَقَرَّبُ

وكان المشركون يَحجّون ويَعتمرون ويُهدون فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم؛ فأنزل الله تعالى: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }. وقال عطاء بن أبي ربَاح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن: دين الله كله؛ كقوله: { { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [الحج: 32] أي دين الله.

قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدّم على غيره لعمومه. وقد اختلف العلماء في إشعار الهَدْي وهي:

الثانية ـ فأجازه الجمهور؛ ثم ٱختلفوا في أي جهة يُشعَر؛ فقال الشافعي وأحمد وأبو ثَوْر: يكون في الجانب الأيمن؛ ورُوي عن ٱبن عمر. وثبت عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن؛ أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح. ورُوي أنه أشعر بُدْنه من الجانب الأيسر؛ قال أبو عمر بن عبد البرّ: هذا عندي حديث منكر من حديث ٱبن عباس؛ والصحيح حديث مسلم عن ٱبن عباس، قال: ولا يصح عنه غيره. وصفحة السَّنام جانبه، والسَّنام أعلى الظهر. وقالت طائفة: يكون في الجانب الأيسر؛ وهو قول مالك، وقال: لا بأس به في الجانب الأيمن. وقال مجاهد: من أيّ الجانبين شاء؛ وبه قال أحمد فى أحد قوليه. ومنع من هذا كلّه أبو حنيفة وقال: إنه تعذيب للحيوان، والحديث يردّ عليه؛ وأيضاً فذلك يجري مجرى الوَسْم الذي يُعرف به المِلْك كما تقدّم؛ وقد أوْغَل ٱبن العربي على أبي حنيفة في الردّ وٱلإنكار حين لم ير الإشعار فقال: كأنه لم يسمع بهذه الشّعيرة في الشّريعة! لهي أشهر منه في العلماء.

قلت: والذي رأيته منصوصاً في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنّة بل هو مباح؛ لأن الإشعار لمّا كان إعلاماً كان سنّة بمنزلة التّقليد، ومن حيث أنه جرح ومُثْلَة كان حراماً، فكان مشتملاً على السنّة والبدعة فجُعلَ مباحاً. ولأبي حنيفة أن الإشعار مُثْلَة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروهاً؛ وما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما كان في أوّل الابتداء حين كانت العرب تنتهب كلّ مال إلا ما جُعل هَدْياً، وكانوا لا يعرفون الهَدْي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر؛ هكذا رُوي عن ٱبن عباس. وحُكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتُريديّرحمه الله تعالى أنه قال: يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البَضْع على وجه يخاف منه السِّراية، أما ما لم يجاوز الحدّ فُعِل كما كان يُفعَل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن؛ وهكذا ذكر أبو جعفر الطَّحاويّ. فهذا ٱعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار، فقد سمعوه ووصل إليهم وعَلِموه؛ قالوا: وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحدٌ محرِما؛ لأن مباشرة المكروه لا تُعدّ من المناسك.

الثالثة ـ قوله تعالى: { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } ٱسم مفرد يدلّ على الجنس في جميع الأشهر الحُرُم وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سَرْدٌ، يأتي بيانها في «براءة»؛ والمعنى: لا تستحلّوها للقتال ولا للغارة ولا تبدّلوها؛ فإن ٱستبدالها ٱستحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النَّسيء؛ وكذلك قوله: { وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } أي لا تستحلّوه، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قِلاَدة. فنهى سبحانه عن استحلال الهَدْي جملة، ثم ذكر المقلَّد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد.

الرابعة ـ قوله تعالى: { وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } الهديُ ما أُهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة؛ الواحدة هَدْيَةٌ وهَدِيَّة وهَدْيٌ. فمن قال: أراد بالشّعائر المناسك قال: ذكر الهَدْي تنبيهاً على تخصيصها. ومن قال: الشّعائر الهدي قال: إن الشعائر ما كان مُشعَرا أي مُعْلَما بإسالة الدّمِ من سَنامه، والهديُ ما لم يُشعَر، ٱكتفى فيه بالتقليد. وقيل: الفرق أن الشعائر هي البُدن من الأنعام. والهَدْي البقر والغنم والثّياب وكل ما يُهدى. وقال الجمهور: الهَديُ عامّ في جميع ما يتقرّب به من الذّبائح والصّدقات؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "المُبَكِّر إلى الجمعة كالمُهْدِي بَدَنة" إلى أن قال: "كَالمُهدِي بَيْضة" فسمّاها هَدْياً؛ وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصّدقة؛ وكذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هَدْياً فعليه أن يتصدّق به؛ إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسَوْقُها إلى الحرم وذبحها فيه، وهذا إنما تُلقّي من عُرف الشّرع في قوله تعالى: { { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] وأراد به الشّاة؛ وقال تعالى: { { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة: 95] وقال تعالى: { { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] وأقله شاة عند الفقهاء. وقال مالك: إذا قال ثوبي هَدْيٌ يجعل ثمنه في هَدي. «وَالْقَلاَئِدَ» ما كان الناس يتقلّدونه أَمَنَةً لهم؛ فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد ثم نُسخ. قال ٱبن عبّاس: آيتان نسختا من «المائدة» آية القلائد وقوله: { { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [المائدة: 42] فأمّا القلائد فنسخَها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا. وأمّا الأُخرى فنسخها قوله تعالى: { { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } } [المائدة: 49] على ما يأتي. وقيل: أراد بالقلائد نفس القلائد؛ فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يُتَقَلَّد به طَلَباً للأمن؛ قاله مجاهد وعطاء ومُطَرِّف بن الشِّخِّير. والله أعلم. وحقيقة الهدي كلّ مُعطًى لم يذكر معه عِوَض. وٱتفق الفقهاء على أن من قال: لِلَّه عليّ هدى أنه يبعث بثمنه إلى مكة. وأما القلائد فهي كل ما عُلّق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لِلّه سبحانه؛ من نَعل أو غيره، وهي سُنّة إبراهيميّة بقيت في الجاهلية وأقرّها الإسلام، وهي سنّة البقر والغنم. قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة إلى البيت غَنَماً فقلّدها؛ أخرجه البخاري ومسلم؛ وإلى هذا صار جماعة من العلماء: الشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور وٱبن حبيب؛ وأنكره مالك وأصحاب الرّأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بَلَغ لكنّهم ردّوه لانفراد الأسودَ به عن عائشة رضي الله عنها؛ فالقول به أولى. والله أعلم. وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أُشعرت كالبُدن؛ قاله ٱبن عمر؛ وبه قال مالك. وقال الشافعيّ: تُقلَّد وتُشعرَ مطلقاً ولم يفرقوا. وقال سعيد بن جُبَير: تُقلّد ولا تُشعرَ؛ وهذا القول أصحّ إذ ليس لها سَنام، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل. والله أعلم.

الخامسة ـ وٱتّفقوا فيمن قلّد بدَنة على نيّة الإحرام وساقها أنه يصير محرماً؛ قال الله تعالى: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } إلى أن قال: { فَٱصْطَادُواْ } ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التّقليد عُرِف أنه بمنزلة الإحرام.

السادسة ـ فإن بعث بالهدي ولم يَسُق بنفسه لم يكن محرماً؛ لحديث عائشة قالت: أنا فتلتُ قلائد هَدْيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ؛ ثم قَلَّدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحلَّه الله له حتى نُحِر الهديُ؛ أخرجه البخاريّ، وهذا مذهب مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء. ورُوي عن ٱبن عباس أنه قال: يصير مُحرِما؛ قال ٱبن عباس: من أهدى هدياً حَرُم عليه ما يَحْرُم على الحاجّ حتى يُنحر الهدُي؛ رواه البخاريّ؛ وهذا مذهب ٱبن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جُبير، وحكاه الخطّابي عن أصحاب الرأي؛ وٱحتجّوا بحديث جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم جالساً فقدّ قميصَه من جيبه ثم أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أمرتُ ببُدْني التي بعثت بها أن تُقلَّد وتُشَعر على مكان كذا وكذا فلبستُ قميصي ونسيتُ فلم أكن لأُخرج قميصي من رأسي" وكان بعث ببُدْنه وأقام بالمدينة. في إسناده عبد الرّحمٰن بن عطاء بن أبي لبِيبة وهو ضعيف. فإن قلّد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون: لا يصير محرماً؛ لأن تقليد الشّاة ليس بمسنون ولا من الشعائر؛ لأنه يُخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البُدن؛ فإنها تُتْرك حتى ترد الماء وتَرعى الشّجر وتصل إلى الحرم. وفي صحيح البخاريّ عن عائشة أُم المؤمنين قالت: فَتلتُ قلائدها من عِهْن كان عندي. العِهْن الصّوف المصبوغ؛ ومنه قوله تعالىٰ: { { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [القارعة: 5].

السابعة ـ ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قُلِّد أو أُشعر؛ لأنه قد وجب، وإن مات مُوجِبه لم يُورَثْ عنه ونَفذ لوجهه؛ بخلاف الأُضحِيّة فإنها لا تجب إلاَّ بالذّبح خاصّة عند مالك إلاَّ أن يوجبها بالقول؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذّبح فقال: جعلتُ هذه الشاة أضْحِيَّة تعيّنت؛ وعليه؛ إن تلفت ثم وجدها أيام الذّبح أو بعدها ذَبَحَها ولم يَجُز له بيعُها؛ فإن كان ٱشترى أُضْحِيَّة غيرها ذبحهما جميعاً في قول أحمد وإسحاق. وقال الشافعيّ: لا بدَلَ عليه إذا ضلّت أو سُرِقت، إنما الإبدال في الواجب. ورُوي عن ٱبن عبّاس أنه قال: إذا ضلّت فقد أجزأت. ومن مات يوم النّحر قبل أن يُضحِّي كانت ضحيّته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهَدْيِ. وقال أحمد وأبو ثور: تذبح بكل حال. وقال الأوزاعيّ: تذبح إلاَّ أن يكون عليه دين لا وفاء له إلاَّ من تلك الأضْحيَّة فتُباع في دَيْنه. ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يَصنع بها، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث. وما أصاب الأضحيّة قبل الذّبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهَدْى؛ هذا تحصيل مذهب مالك. وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل؛ والأوّل أصوب. وٱلله أعلم.

الثامنة ـ قوله تعالىٰ: { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } يعني القاصدين له؛ من قولهم أَمَّمْت كذا أي قصدته. وقرأ الأعمش: { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } بالإضافة كقوله: «غَيْرَ مُحِلّي الصَّيدِ» والمعنى: لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبّد والقربة؛ وعليه فقيل: ما في هذه الآيات من نهيٍ عن مشرك، أو مراعاة حرمة له بِقلادة، أو أمّ البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله: { { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5]. وقوله: { { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [التوبة: 28] فلا يُمكَّن المشرك من الحج، ولا يؤمَّن في الأشهر الحُرُم وإن أهدى وقلّد وحجّ؛ روي عن ٱبن عباس وقاله ٱبن زيد على ما يأتي ذكره. وقال قوم: الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين. والنهي عامّ في الشهر الحرام وغيره؛ ولكنه خصّ الشهر الحرام بالذكر تعظيماً وتفضيلا؛ وهذا يتمشّى على قول عطاء؛ فإن المعنى لا تُحِلوا معالم الله، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلّوه؛ ولذلك قال أبو ميسرة: هي محكمة. وقال مجاهد: لم ينسخ منها إلاَّ «الْقَلاَئِدَ» وكان الرجل يتقلد بشيء من لِحاء الحَرَم فلا يقرب فنسخ ذلك. وقال ٱبن جُريج: هذه الآية نهي عن الحُجّاج أن تقطع سُبُلهم. وقال ٱبن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؛ جاء أناس من المشركين يحجّون ويعتمرون فقال المسلمون: يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلاَّ أن نغير عليهم؛ فنزل القرآن { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ }. وقيل: كان هذا لأمر شُرَيح بن ضُبَيْعَة البَكْريّ ـ ويلقّب بالحُطَم ـ أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عُمْرته فنزلت هذه الآية، ثم نسخ هذا الحكم كما ذكرنا. وأدرك الحُطَم هذا رِدّة اليَمَامة فقتِل مرتدّاً وقد رُوي من خبره أنه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وخلّف خيله خارج المدينة فقال: إلاَمَ تدعو الناس؟ فقال: إلى شهادة أن لا إلٰه إلاَّ الله وإقام الصَّلاة وإيتاء الزكاة فقال: حسن؛ إلاَّ أنّ لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم. فمرّ بسرْح المدينة فٱستاقه؛ فطلبوه فعجزوا عنه، فانطلق وهو يقول:"

قد لفّها الليل بسوّاقٍ حُطَمليس براعي إبلٍ ولا غَنَم
ولا بجزّارٍ على ظهرٍ وَضَمْباتُوا نِياماً وٱبن هندٍ لم يَنَمْ
بات يقاسِيها غلام كالزُّلَّمخَدلَّج الساقينِ خَفّاق القَدَمْ

" فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضِيّة سمع تلبية حُجّاج اليمامة فقال: هذا الحُطَم وأصحابه. وكان قد قلّد ما نهب من سَرْح المدينة وأهداه إلى مكة، فتوجهوا في طلبه؛ فنزلت الآية" ، أي لا تُحِلّوا ما أُشعر لله وإن كانوا مشركين؛ ذكره ابن عباس.

التاسعة ـ وعلى أن الآية محكمة قوله تعالىٰ: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } يوجب إتمام أُمور المناسك؛ ولهذا قال العلماء: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك شيئاً منها وإن فسد حجُّه؛ ثم عليه القضاء في السنة الثانية. قال أبو الليث السّمرقنديّ؛ وقوله تعالىٰ: { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } منسوخ بقوله: { { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [التوبة: 36] وقوله: { وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } محكم لم ينسخ؛ فكل من قلّد الهدي ونوى الإحرام صار مُحرِماً لا يجوز له أن يحلّ بدليل هذه الآية؛ فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض؛ بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ.

العاشرة ـ قوله تعالىٰ: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } قال فيه جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم. وقيل: كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله؛ وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار. قال ٱبن عطية: هذه الآية ٱستئلاف من الله تعالىٰ للعرب ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس، وتتداخل الناس، ويرِدون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان. وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عامٍ سنةَ تسع؛ إذْ حجّ أبو بكر ونودِي الناسُ بسورة «براءة».

الحادية عشرة ـ قوله تعالىٰ: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } أمر إباحةٍ ـ بإجماع الناس ـ رفع ما كان محظوراً بالإحرام؛ حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة «ٱفعل» الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب؛ وهو مذهب القاضي أبي الطّيّب وغيره؛ لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدّم الحظر لا يصلح مانعا؛ دليله قوله تعالىٰ: { { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 5] فهذه «ٱفعل» على الوجوب؛ لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله: { { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ } [الجمعة: 10] { { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } [البقرة: 222] من النظر إلى المعنى والإجماع، لا من صيغة الأمر. والله أعلم.

الثانية عشرة ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي لا يحملّنكم؛ عن ٱبن عباس وقتادة، وهو قول الكِسائي وأبي العباس. وهو يتعدّى إلى مفعولين؛ يُقال: جَرَمني كذا على بُغْضك أي حَمَلني عليه؛ قال الشاعر:

وَلَقدْ طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنةًجَرَمت فَزَارَةَ بَعْدَهَا أن يَغْضَبُوا

وقال الأخفش: أي ولا يُحِقَّنَّكم. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أي لا يَكسِبنّكم بغض قوم أن تعتدوا ٱلحقّ إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، قال عليه السَّلام: "أَدّ الأمانة إلى من ٱئتمنك ولا تَخُن من خَانكَ" وقد مضى القول في هذا. ونظير هذه الآية { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194] وقد تقدّم مستوفى. ويُقال: فلان جَريمة أهله أي كاسبهم؛ فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب. وأجرم فلان أي ٱكتسب الإثم؛ ومنه قول الشاعر:

جَرِيمة ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍتَرىٰ لعِظامِ ما جَمَعتْ صَلِيبَا

معناه كاسب قوتٍ، والصلِيب ٱلوَدَك، وهذا هو الأصل في بِنَاء جَ رَ مَ. قال ٱبن فارس: يُقال جَرَم وأجْرَم، ولا جَرَم بمنزلة قولك: لا بدّ ولا محالة؛ وأصلها من جَرَم أي ٱكتسب، قال:

جَرَمتْ فَزَارةَ بعدها أن يَغْضبُوا

وقال آخر:

يا أيها المشتكِي عُكْلاً وما جَرَمتْإلَى القبائِلِ من قَتْلٍ وإبآسِ

ويُقال: جَرَم يَجْرِم جَرْماً إذا قطع؛ قال الرّمّاني عليّ بن عيسى: وهو الأصل؛ فَجَرم بمعنى حَملَ على الشيء لقطعه من غيره، وجَرَم بمعنى كَسَب لانقطاعه إلى الكسب، وجَرَم بمعنى حق لأن الحقّ يقطع عليه. وقال الخليل: { { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } [النحل: 62] لقد حقَّ أن لهم العذاب. وقال الكِسائي: جَرَم وأجْرَم لغتان بمعنى واحد، أي ٱكتسب. وقرأ ٱبن مسعود «يُجْرِمَنَّكُمْ» بضم الياء، والمعنى أيضاً لا يكسِبنّكم؛ ولا يعرف البصريون الضّمّ، وإنما يقولون: جرم لا غير. والشَّنآن البغض. وقُرىء بفتح النون وإسكانها؛ يُقال: شَنِئت الرجل أَشْنَؤُه شَنْأً وَشَنْأة وَشَنآناً وَشَنْآنا بجزم النون، كل ذلك إذا أبغضته؛ أي لا يكسِبنّكم بغضُ قوم بصدّهم إياكم أن تعتدوا؛ والمراد بغضكم قوماً، فأضاف المصدر إلى المفعول. قال ٱبن زيد: لما صُدّ المسلمون عن البيت عام الحديبية مرّ بهم ناس من المشركين يريدون العمرة؛ فقال المسلمون: نصدّهم كما صدّنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية؛ أي لا تعتدوا على هؤلاء، ولا تصدّوهم { أَن صَدُّوكُمْ } أصحابهم، بفتح الهمزة مفعول من أجله؛ أي لأن صدّوكم. وقرأ أبو عمرو وٱبن كثير بكسر الهمزة «إن صدّوكم» وهو ٱختيار أبي عبيد. وروي عن الأعمش «إنْ يصدّوكم». قال ٱبن عطية: فإن للجزاء؛ أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل. والقراءة الأُولى أمكن في المعنى. وقال النحاس: وأما «إن صدوكم» بكسر «إن» فالعلماء الجِلّة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمانٍ، وكان المشركون صدّوا المسلمين عام الحديبية سنة سِتٍّ، فالصدّ كان قبل الآية؛ وإذا قرىء بالكسر لم يجز أن يكون إلاَّ بعده؛ كما تقول: لا تعطِ فلاناً شيئاً إن قاتلك؛ فهذا لا يكون إلاَّ للمستقبل، وإن فتحت كان للماضي، فوجب على هذا ألاّ يجوز إلاَّ «أَنْ صَدُّوكُمْ». وأيضاً فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجباً؛ لأن قوله: «لا تُحِلّوا شَعَائِر ٱللَّهِ» إلى آخر الآية يدل على أن مَكّة كانت في أيديهم، وأنهم لا ينهون عن هذا إلاَّ وهم قادرون على الصدّ عن البيت الحرام، فوجب من هذا فتح «أن» لأنه لِما مضى. { أَن تَعْتَدُواْ } في موضع نصب؛ لأنه مفعول به، أي لا يَجْرِمنّكم شنَآنُ قوم الاعتداء. وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد «شَنْآن» بإسكان النون؛ لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة؛ وخالفهما غيرهما وقال: ليس هذا مصدراً ولكنه ٱسم الفاعل على وزن كسْلان وغضْبان.

الثالثة عشرة ـ قوله تعالىٰ: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } قال الأخفش: هو مقطوع من أوّل الكلام، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى؛ أي لِيُعِنْ بعضُكم بعضاً، وتحاثّوا على ما أمر الله تعالىٰ وٱعملوا به، وٱنتهوا عما نهى الله عنه وٱمتنعوا منه؛ وهذا موافق لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدَّال على الخير كفاعله" . وقد قيل: الدّال على الشر كصانعه. ثم قيل: البِرّ والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكرّر باختلاف اللفظ تأكيداً ومبالغة؛ إذ كل بِرّ تقوى وكل تقوى برّ. قال ٱبن عطية: وفي هذا تسامح مّا، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البِرّ يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوّز. وقال الماورديّ: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبِرّ وقرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالىٰ، وفي البِرّ رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالىٰ ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته. وقال ٱبن خويزِمنداد في أحكامه: والتعاون على البرّ والتقوى يكون بوجوه؛ فواجب على العالِم أن يعيِن الناس بعِلمه فيعلمهم، ويعينهم الغنِيّ بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" . ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصر له وردّه عما هو عليه. ثم نهى فقال: { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } وهو الحكم اللاحق عن الجرائم، وعن «الْعُدْوَانِ» وهو ظلم الناس. ثم أمر بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً فقال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ }.