التفاسير

< >
عرض

لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٨
إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه مسألتان ـ

الأولى ـ قوله تعالى: { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ } الآية. أي لئن قصدت قتلي فأنا لا أقصد قتلك؛ فهذا ٱستسلام منه. وفي الخبر: "إذا كانت الفتنة فكن كخير ٱبني آدم" . وروى أبو داود "عن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول الله: إن دخل علي بيتي وبسط يده إلي ليقتلني؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن كخير ٱبني آدم" وتلا هذه الآية: { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي }. قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ ألاَّ يَسْتلّ أحد سيفاً، وألا يمتنع ممن يريد قتله. قال علمائنا: وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً. وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك؛ لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوّزون للمصول عليه الدفع؛ وٱحتجوا بحديث أبي ذَرّ، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة؛ على ما بيناه في كتاب «التذكرة» وقال عبدالله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشدّ قوّة من قابيل ولكنه تحرج. قال ٱبن عطية: وهذا هو الأظهر، ومن ها هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاصٍ لا كافر؛ لأنه لو كان كافراً لم يكن للتحرج هنا وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحداً، ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة؛ ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه. وقيل: المعنى لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي، وعلى هذا قيل: كان نائماً فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ومدافعة الإنسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي. وقيل: لئن بدأت بقتلي فلا أبدأ بالقتل. وقيل: أراد لئن بسطت إلي يدك ظلماً فما أنا بظالم؛ إني أخاف الله رب العالمين.

الثانية ـ قوله تعالى: { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } قيل: معناه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ٱلتقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" وكأن هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك؛ فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي.وقيل المعنى «بإثمي» الذي يختصُّ بي فيما فرَّطت؛ أي يؤخذ من سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلك؛ وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام: "يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه" . أخرجه مسلم بمعناه، وقد تقدّم؛ ويعضده قوله تعالى: { { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت: 13] وهذا بيّن لا إشكال فيه. وقيل: المعنى إني أريد ألاّ تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى: { { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل: 15] أي لئلا تميد بكم. و قوله تعالى: { { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [النساء: 176] أي لئلا تضلوا فحذف «لا».

قلت: وهذا ضعيف؛ لقوله عليه السلام: "لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ٱبن آدم الأوّل كِفْل من دمها لأنه أوّل من سَنّ القتل" . فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل؛ ولهذا قال أكثر العلماء: إنّ المعنى؛ ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي. قال الثعلبي: هذا قول عامة أكثر المفسرين. وقيل: هو ٱستفهام، أي أو إني أريد؟ على جهة الإنكار؛ كقوله تعالى: { { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } [الشعراء: 22] أي أو تلك نعمة؟ وهذا لأن إرادة القتل معصية؛ حكاه القشيري وسئل أبو الحسن بن كَيْسان: كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار؟ فقال إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل؛ والمعنى: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني لأمتنعنّ من ذلك مريداً للثواب؛ فقيل له: فكيف قال: بإثمي وإثمك؛ وأي إثم له إذا قتل؟ فقال: فيه ثلاثة أجوبة؛ أحدها ـ أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل قربانك؛ ويروى هذا القول عن مجاهد. والوجه الآخر ـ أن تبوء بإثم قتلي وإثم ٱعتدائك علي؛ لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل. والوجه الثالث ـ أنه لو بسط يده إليه أَثِم؛ فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك فإثمه يرجع على صاحبه. فصار هذا مثل قولك: المال بينه وبين زيد؛ أي المال بينهما، فالمعنى أن تبوء بإثمنا. وأصل باء رجع إلى المَبَاءة، وهي المنزل. { { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [البقرة: 61] أي رجعوا. وقد مضى في «البقرة» مستوفى. وقال الشاعر:

ألاَ تَنْتَهي عَنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقيمَحارِمَنا لا يبُؤ الدَّمُ بالدَّمِ

أي لا يرجع الدّم بالدم في القود. { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلّفين قد لحقهم الوعد والوعيد. وقد ٱستدل بقول هابيل لأخيه قابيل: { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } على أنه كان كافراً؛ لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن. وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى { مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } مدّة كونك فيها. والله أعلم.