التفاسير

< >
عرض

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست وعشرون مسألة:

الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } تقدّم القول فيه في البقرة.

الثانية ـ قوله تعالىٰ: { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ } هي التي تموت خنقاً، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدميّ أو ٱتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه. وذكر قتادة: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها؛ وذكر نحوه ٱبن عباس.

الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { وَٱلْمَوْقُوذَةُ } الموقوذة هي التي تُرمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية؛ عن ٱبن عباس وٱلحسن وقتادة وٱلضحاك وٱلسدّي؛ يُقال منه: وَقَذَه يَقِذُه وَقْذاً وهو وَقِيذ. والوَقْذ شِدّة الضرب، وفلان وقيذ أي مثخن ضرباً. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه. وقال الضحاك: كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها، ومنه المقتولة بقوس البندق. وقال الفرزدق:

شَغّارَة تَقِذ الفصيلَ بِرِجلهافَطّارةٌ لِقَوَادِمِ الأبْكارِ

وفي صحيح مسلم "عن عديّ بن حاتم قال: قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمِعْراض الصيد فأصيب؛ فقال: إذا رميت بالمِعراض فَخَزَق فكُلْه وإن أصابه بِعرضه فلا تأكله" وفي رواية "فإنه وَقِيذ" . قال أبو عمر: ٱختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبُنْدُق والحجر والمِعراض؛ فمن ذهب إلى أنه وَقِيذ لم يُجزه إلاَّ ما أدرك ذكاته؛ على ما روي عن ٱبن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوريّ والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك؛ قال الأوزاعي في المِعراض؛ كُلْهُ خَزَق أو لم يَخزِق؛ فقد كان أبو الدّرداء وَفَضَالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً؛ قال أبو عمر: هكذا ذكر الأوزاعيّ عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ٱبن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه. والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لَجَأ إليه حديثُ عديّ بن حاتم وفيه "وما أصاب بعَرْضه فلا تأكله فإنما هو وَقِيذ" .

الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ } المتردية هي التي تتردّى من العلو إلى السفل فتموت؛ كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه؛ وهي متفعِّلة من الردى وهو الهلاك؛ وسواء تردَّت بنفسها أو ردّاها غيرها. وإذا أصاب السهم الصيد فتردّى من جبل إلى الأرض حرم أيضاً؛ لأنه ربما مات بالصدمة والتردّي لا بالسهم؛ ومنه الحديث: "وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" أخرجه مسلم. وكانت الجاهلية تأكل المتردّي ولم تكن تعتقد ميتة إلاَّ ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف؛ فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة؛ فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها، وبقيت هذه كلها ميتة، وهذا كله من ٱلمُحْكَم ٱلمتفق عليه. وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نَفَسها بالنطْح والأكل.

الخامسة ـ قوله تعالىٰ: { وَٱلنَّطِيحَةُ } النطيحة فعِيلة بمعنى مفعولة، وهي الشاة تنطحها أُخرىٰ أو غير ذلك فتموت قبل أن تُذَكّى. وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة؛ لأنّ الشاتين قد تتناطحان فتموتان. وقيل: نطِيحة ولم يقل نطِيح، وحق فعِيل لا يذكر فيه الهاء كما يُقال: كَفٌّ خَضِيب ولِحية دَهِين؛ لكن ذكر الهاء هٰهنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعِيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به؛ يُقال: شاة نطيح وٱمرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول: رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم؛ لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت: رأيت قتيل بن فلان لم يعرف أرجل هو أم ٱمرأة. وقرأ أبو مَيْسَرة «وَٱلمنطوحة».

السادسة ـ قوله تعالىٰ: { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } يريد كل ما ٱفترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمِر والثّعلب والذئب والضَّبُع ونحوها، هذه كلها سباع. يُقال: سبع فلان فلاناً أي عَضّه بِسنِّه، وسَبَعه أي عابه ووقع فيه. وفي الكلام إضمار، أي وما أكل منه السّبع؛ لأنّ ما أكله السّبع فقد فَنِي. ومن العرب من يوقف ٱسم السّبع على الأسد، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها؛ قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حَيْوة «السّبْع» بسكون الباء، وهي لغة لأهل نَجْد. وقال حسّان في عُتْبة بن أبي لَهَب:

مَن يَرجع العامَ إلى أهلهفما أكِيلُ السّبْع بالرّاجِع

وقرأ ٱبن مسعود: «وأَكِيلَة السّبُع» وقرأ عبد الله بن عباس: «وأكِيل السّبُع».

السابعة ـ قوله تعالىٰ: { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } نصب على الاستثناء المتّصل عند الجمهور من العلماء والفقهاء، وهو راجع على كلّ ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة؛ فإن الذكاة عاملة فيه؛ لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفاً إلى ما تقدّم من الكلام، ولا يجعل منقطعاً إلاَّ بدليل يجب التسليم له. رَوى ٱبن عُيَيْنة وشُرَيك وجَرير عن الرُّكَيْن بن الرّبيع عن أبي طلحة الأسديّ قال: سألت ٱبن عباس عن ذئب عدا على شاة فشقّ بطنها حتى ٱنتثر قُصْبها فأدركت ذكاتها فذكّيتها فقال: كُل وما ٱنتثر من قُصْبِها فلا تأكل. قال إسحاق بن رَاهْوَيْه: السّنة في الشاة على ما وصف ابن عباس؛ فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حيّة بعد، وموضع الذكاة منها سالم؛ وإنما ينظر عند الذبح أحيّة هي أم ميتة، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها؟ فكذلك المريضة؛ قال إسحٰق: ومن خالف هذا فقد خالف السنّة من جمهور الصحابة وعامّة العلماء.

قلت: وإليه ذهب ٱبن حبيب وذُكر عن أصحاب مالك؛ وهو قول ٱبن وَهْب والأشهر من مذهب الشافعيّ. قال المُزنيّ: وأحفظ للشافعي قولاً آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السّبع أو التردّي إلى ما لا حياة معه؛ وهو قول المدنيّين، والمشهور من قول مالك، وهو الذي ذكره عبد الوهاب في تلقينه، ورُوي عن زيد بن ثابت؛ ذكره مالك في موطّئه، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيّين البغداديين. والاستثناء على هذا القول منقطع؛ أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيّتم فهو الذي لم يحرّم. قال ٱبن العربي: ٱختلف قول مالك في هذه الأشياء؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلاَّ ما ذُكِّي بذكاة صحيحة؛ والذي في الموطّأ أنه إن كان ذَبَحها وَنَفَسُها يجري وهي تضطرب فليأكل؛ وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره؛ فهو أولى من الروايات النادرة. وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقِية حياة؛ وليت شِعري أيّ فرق بين بقية حياة من مرض، وبقية حياة من سبع لو ٱتّسق النظرُ، وسلمت من الشّبهة الفِكَرُ!. وقال أبو عمر: قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذَنبها أو نحو ذلك؛ وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النّزْع ولم تحرّك يداً ولا رِجْلاً أنه لا ذكاة فيها؛ وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردّية وما ذكر معها في الآية. والله أعلم.

الثامنة ـ قوله تعالى: { ذَكَّيْتُمْ } الذكاة في كلام العرب الذبح؛ قاله قُطْرُب. وقال ٱبن سيده في «المحكم»: والعرب تقول «ذكاة الجنين ذكاة أُمّه»، قال ٱبن عطية: وهذا إنما هو حديث. وذكَّى الحيوان ذَبَحه؛ ومنه قول الشاعر:

يذكّيها الأسَل

قلت: الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدّرَاقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكاة الجنين ذكاة أُمه" . وبه يقول جماعة أهل العلم، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا خرج الجنين من بطن أمّه ميتاً لم يحل أكله؛ لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين. قال ٱبن المُنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أُمّه" دليل على أن الجنين غير الأُمّ، وهو يقول: لو أعتقت أَمَةٌ حامل أن عتقه عتق أُمّه؛ وهذا يُلزمه أن ذكاته ذكاة أُمّه؛ لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق ٱثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة ٱثنين؛ على أن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن أصحابه، وما عليه جُلُّ الناس مستغنىً به عن قول كل قائل. وأجمع أهل العلم على أن الجنين إذا خرج حياً أن ذكاة أُمّه ليست بذكاة له. وٱختلفوا إذا ذكيت الأمّ وفي بطنها جنين؛ فقال مالك وجميع أصحابه: ذكاته ذكاة أُمّه إذا كان قد تمّ خَلْقه ونبت شعره، وذلك إذا خرج ميتاً أو خرج به رمق من الحياة، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك، فإن سبقهم بنفسه أكل. وقال ٱبن القاسم: ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم؛ فأمرت أهلي أن يشووه. وقال عبدالله بن كعب بن مالك. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمّه. قال ٱبن المنذر: وممن قال ذكاته ذكاة أمّه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد ٱبن المسيِّب والشافعي وأحمد وإسحاق. قال القاضي أبو الوليد الباجي: وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أُمّه أشعر أو لم يشعر" إلا أنه حديث ضعيف؛ فمذهب مالك وهو الصحيح من الأقوال، الذي عليه عامّة فقهاء الأمصار. وبالله التوفيق.

التاسعة ـ قوله تعالى: { ذَكَّيْتُمْ } الذكاة في ٱللغة أصلها التمام، ومنه تمام السِّنّ. والفرس المذكّى الذي يأتي بعد تمام القُرُوح بسنة؛ وذلك تمام ٱستكمال القوّة. ويقال: ذَكَّى يذكّى والعرب تقول: جرى المْذَكِّيات غِلاَب. والذَّكاء حِدّة القلب؛ قال الشاعر:

يُفَضِّله إذا ٱجتهدوا عليهتَمَامُ السِّنِّ منه والذَّكَاءُ

والذكاء سرعة الفِطنة، والفعل منه ذَكي يْذكَى ذَكاً، والذُّكْوَةُ ما تذكُو به النار، وأذكيت الحرب والنار أوقدتهما. وذُكاء ٱسم الشمس؛ وذلك أنها تذكو كالنار، والصُّبْح ٱبن ذُكاء لأنه من ضوئها. فمعنى «ذَكَّيْتُم» أدركتم ذكاته على التَّمَام. ذكّيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التّطيب؛ يقال: رائحة ذكِية؛ فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طُيِّب، لأنه يتسارع إليه التجفيف؛ وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما «ذكاة الأرض يُبْسُها» يريد طهارتها من النجاسة؛ فالذكاة في الذبيحة تطهيرٌ لها، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيراً لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة؛ وهو قول أهل العراق. وإذا تقرّر هذا فٱعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدّم وفَرْي الأوْدَاج في المذبوح، والنحر في المنحور وٱلعَقْر في غير المقدور، مقروناً بنية القَصْد لله وذِكره عليه، على ما يأتي بيانه.

العاشرة ـ وٱختلف العلماء فيما يقع به الذكاة؛ فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفْرَى الأوداج وأنهر الدّم فهو من آلات الذكاة ما خلا السّن والعَظْم؛ على هذا تواترت الآثار، وقال به فقهاء الأمصار. والسن والظُّفْر المنهى عنهما في التذكية هما غير المنزوعين؛ لأن ذلك يصير خَنْقاً؛ وكذلك قال ٱبن عباس: ذلك ٱلخنق؛ فأما المنزوعان فإذا فَرَيا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم. وقد كره قوم السن والظُّفْر والعظم على كل حال؛ منزوعة أو غير منزوعة؛ منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد وروي عن الشافعي؛ وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خَدِيج قال: قلت يا رسول الله إنا لاقو العدوّ غداً وليست معنا مُدى ـ في رواية ـ فنذكى باللِّيط؟. وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ ٱبن سعد أو سعد بن معاذ: " أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس بها وكلوها" .وفي مصنف أبي داود: " أنذبح بالمروة وشِقة ٱلعصا؟ قال: أعْجِلْ وأرِنْ ما أنهر الدّم وذكر ٱسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدّثك أما السن فعظم وأما الظفر فَمُدَى الحبشة" الحديث أخرجه مسلم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما ذبح بالَّليطة والشَّطيِر والظُّرَرِ فحِلٌّ ذكيٌّ. ٱلليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر. والشِطير فلقة العود، وقد يمكن بها الذَّبح لأنَّ لها جانباً دقيقاً. والظُّرَرِ فِلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر، وعكسه الشظاظ ينحر به؛ لأنه كطرف السّنان ولا يمكن به الذبح.

الحادية عشرة ـ قال مالك وجماعة: لاتصح الذكاة إلاّ بقطع الحُلقوم والوَدَجينْ. وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمَريء ولا يحتاج إلى الوَدَجينْ؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت. ومالك وغيره ٱعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال ـ وهو اللحم ـ من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة؛ وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله: «ما أنهر الدّم». وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع: الحلقوم والوَدَجينْ والمرَيء؛ وهو قول أبي ثور، والمشهور ما تقدّم وهو قول الليث. ثم ٱختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا؟ على قولين.

الثانية عشرة ـ وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمّت الذكاة؛ وٱختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا، على قولين: وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل؛ وكذلك لو ذبحها من القفا وٱستوفى القطع وأنهر الدّم وقطع الحُلقوم وٱلودجين لم تؤكل. وقال الشافعي: تؤكل؛ لأن المقصود قد حصل. وهذا ينبني على أصل، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدّم ففيها ضرب من التعبد؛ وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونَحَر في اللبّة وقال: "إنما الذكاة في ٱلحلق وٱلّلبَّة" فبيّن محلَّها وعيّن موضعها، وقال مبينا لفائدتها: "ما أنهر الدّم وذُكِر ٱسم الله عليه فكُلْ" . فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنيّة ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حَظّ التعبد. فلم تؤكل لذلك. والله أعلم.

الثالثة عشرة ـ وٱختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في ٱلفور وأكمل الذكاة؛ فقيل: يجزئه. وقيل: لا يُجزئه؛ والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكّاها بعدُ وحياتها مستجمعة فيها.

الرابعة عشرة ـ ويستحب ألاّ يَذبح إلاّ مَن تُرضى حاله، وكل من أطاقه وجاء به على سنتّه من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلماً أو كتابياً، وذبح المسلم أفضل من ذَبْح الكتابي، ولا يذبح نُسكاً إلا مسلم؛ فإن ذَبح النُّسك كتابي فقد ٱختلف فيه، ولا يجوز في تحصيل المذهب، وقد أجازه أشهب.

الخامسة عشرة ـ وما ٱستوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسّى، وفي قول مالك وأصحابه وربيعة وٱلليث بن سعد؛ وكذلك المتردّي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحَلْق والَّلبَّه على سنّة الذكاة. وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم؛ وفي الباب حديث رافع بن خَدِيج وقد تقدّم، وتمامه بعد قوله: "فَمُدى الحبشة قال: وأصبنا نَهْب إبل وغَنَم فنَدَّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لهذه الإبل أَوَابِدَ كَأَوَابِد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فٱفعلوا به هكذا ـ وفي رواية ـ فكلوه" . وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ قال الشافعي: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة؛ وٱحتج بما رواه أبو داود والترمذي "عن أبي ٱلعُشَرَاء عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحَلْق والَّلبّة؟ قال: لو طعنتَ في فخذها لأجزأ عنك" . قال يزيد بن هارون: وهو حديث صحيح أعجب أحمد ابن حنبل ورواه عن أبي داود، وأشار على من دخل عليه من ٱلحفّاظ أن يكتبه. قال أبو داود: لا يصلح هذا إلا في ٱلمتردّية والمستوحش. وقد حمل ٱبن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مَهْواة فلا يُوصَل إلى ذكاته إلا بالطّعِن في غير موضع الذّكاة؛ وهو قول انفرد به عن مالك وأصحابه. قال أبو عمر: قول الشافعي أظهر في أهل العلم، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي: لحديث رافع بن خَدِيج؛ وهو قول ٱبن عباس وٱبن مسعود؛ ومن جهة القياس لمّا كان الوحشيّ إذا قُدِر عليه لم يَحِل إلاّ بما يحل به الإنسي؛ لأنه صار مقدورا عليه؛ فكذلك ينبغي في القياس إذا توحّش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يَحِلّ بما يحلّ به الوحشي.

قلت: أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خَدِيج بأن قالوا: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته، وهو مقتضى الحديث وظاهره لقوله: «فَحبسه» ولم يقل إن السّهم قتله؛ وأيضاً فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النّادر منه، وإنما يكون ذلك في الصيّد. وقد صرّح الحديث بأن السّهم حبسه وبعد أن صار محبوساً صار مقدوراً عليه؛ فلا يؤكل إلا بالذّبح والنّحر. وٱلله أعلم. وأما حديث أبي العُشَراء فقد قال فيه الترمذي: «حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمّاد بن سَلمَة، ولا نعرف لأبي العُشَرَاء عن أبيه غير هذا الحديث. وٱختلفوا في ٱسم أبي العشراء؛ فقال بعضهم: ٱسمه أسامة بن قِهطم، ويقال: ٱسمه يَسار بن برز ـ ويُقال: بلز ـ ويقال ٱسمه عُطَارد نسب إلى جدّه». فهذا سند مجهول لا حجّة فيه؛ ولو سُلّمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حُجّة؛ إذ مقتضاه جواز الذّكاة في أي عضو كان مطلقاً في المقدور وغيره، ولا قائل به في المقدور فظاهره ليس بمراد قطعاً وتأويل أبي داود وابن حبيب له غير متفق عليه. فلا يكون فيه حُجّة، والله أعلم. قال أبو عمر: وحُجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يِندّ الإنسي أنه لا يُذكّى إلا بما يُذكّى به المقدور عليه، ثم ٱختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا. وهذا لا حُجّة فيه؛ لأن إجماعهم إنما ٱنعقد على مقدور عليه، وهذا غير مقدور عليه.

السادسة عشرة ـ ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام: "إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قَتلتم فأحسِنوا القِتْلة وإذا ذَبَحتم فأحسِنوا ٱلذّبح ولْيُحِدّ أحدكُم شَفْرته وليُرح ذبيحتَه" رواه مسلم "عن شدّاد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كَتَبَ" فذكره، قال علماؤنا: إحسان الذّبح في البهائم الرّفق بها؛ فلا يَصْرَعها بعُنْف ولا يَجرّها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإباحة والقُربة وتوجيهها إلى القبلة، والإجْهَاز، وقَطْع الوَدَجين والحُلقُوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاْعتراف لله بالمنّة، والشكر له بالنعمة؛ بأنه سخّر لنا ما لو شاء لسلّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا. وقال ربيعة: من إحسان الذّبح ألاّ يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها؛ وحُكي جوازه عن مالك؛ والأول أحسن. وأما حُسْن القِتْلة فعامّ في كل شيء من التّذكية والقِصاص والحدود وغيرها. وقد روَى أبو داود عن ٱبن عباس وأبي هُريرة قالا: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شَرِيطة الشيطان زاد ٱبن عيسى في حديثه وهي التي تُذبح فتُقطع ولا تُفْرى الأوداج ثم تترك فتموت" .

السابعة عشرة ـ قوله تعالى: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } قال ٱبن فارس: «ٱلنُّصُب حَجَر كان يُنْصَب فيُعبد وتُصبُّ عليه دماء الذّبائح، وهو النَّصْب أيضاً. والنَّصَائِبِ حِجارة تُنصَب حَوَالى شَفير البئر فتُجعل عَضَائد، وغُبار مُنتَصب مرتفع، وقيل: «النُّصُب» جمع، واحده نِصاب كحمار وحُمُر. وقيل: هو ٱسم مفرد والجمع أنصاب، وكانت ثلاثمائة وستين حَجَراً. وقرأ طلحة «النُّصْب» بجزم الصَّاد. ورُوي عن ٱبن عمر «النَّصبِ» بفتح النون وجزم الصَّاد. الجحدرِي: بفتح النون والصاد جعله ٱسماً موحّداً كالجبل والجمل، والجمع أنصاب؛ كالأجمال والأجبال. قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالى مكة يذبحون عليها. قال ٱبن جُريج: كانت العرب تَذبح بمكة وتَنضح بالدّم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللّحم ويضعونه على الحجارة؛ فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظّم هذا البيت بهذه الأفعال. فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك؛ فأنزل الله تعالى { { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا } [الحج: 37] ونزلت «وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب» المعنى: والنيّة فيها تعظيم النُّصُب لا أن الذّبح عليها غير جائز، وقال الأعشى:

وَذَا النُّصُبَ ٱلمنصوبَ لا تَنْسُكَنَّهلِعافيةٍ والَّلَهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا

وقيل: «على» بمعنى اللام؛ أي لأجلها؛ قال قُطْرُب قال ٱبن زيد: ما ذُبح على النُّصُب وما أهِلَّ به لغير الله شيء واحد. قال ٱبن عطية: ما ذُبِح على النُّصُب جزء مما أهِلّ به لغير الله، ولكن خصّ بالذّكْر بعد جنسه لشُهْرة الأمر وشَرَف الموضع وتعظيم النفوس له.

الثامنة عشرة ـ قوله تعالى: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } معطوف على ما قبله، و «أَنْ» في محل رفع، أي وحُرم عليكم الاستقسام. وٱلأزلام قِداح المَيْسر، واحدها زلَمَ وزُلم؛ قال:

باتَ يُقَاسيها غلامٌ كالزَّلَم

وقال آخر فجمع:

فَلَئِنْ جَذِيمة قَتّلتَ سَرَواتهافنساؤها يَضِربن بالأزلامِ

وذكر محمد بن جرير: أن ٱبن وَكِيع حدّثهم عن أبيه عن شُرَيك عن أبي حُصَين عن سعيد بن جُبير أن الأزلام حَصَى بيض كانوا يضربون بها. قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشَّطْرَنجْ. فأما قول لبيد:

تَـزِلُّ عـن الثّـرى أزلامـها

فقالوا: أراد أظلاف البقرة الوحشية. والأزلام للعرب ثلاثة أنواع:

منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها ٱفْعَلْ، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مُهْمَل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فِعْل شيء أدخل يده ـ وهي متشابهة ـ فإذا خَرَج أحدها ٱئتمر وٱنتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القِدْح الذي لا شيء عليه أعاد الضّرب؛ وهذه هي التي ضَرَب بها سُرَاقَة بن مالك بن جُعْشُم حين ٱتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة؛ وإنما قيل لهذا الفعل: ٱستقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرّزق وما يريدون؛ كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسّقي. ونظير هذا الذي حرّمه الله تعالى قول المُنَجم: لا تخرج من أجل نَجْم كذا، واخرج من أجل نَجْم كذا. وقال جل وعزّ: { { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } [لقمان: 34] الآية. وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله.

والنوع الثاني ـ سبعة قِداح كانت عند هُبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النّوازِل، كل قِدْح منها فيه كتاب؛ قِدح فيه العَقْل من أمر الدّيات، وفي آخر «منكم» وفي آخر «من غيركم»، وفي آخر «مُلْصَق»، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك؛ وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بَنِيه إذ كان نَذر نَحرْ أحدهم إذا كملوا عشرة؛ الخبر المشهور ذكره ٱبن إسحاق. وهذه السبعة أيضاً كانت عند كل كاهِن من كهان العرب وحكامهم؛ على نحو ما كانت في الكعبة عند هُبَل.

والنوع الثالث ـ هو قِدَاح المَيْسر وهي عشرة؛ سبعة منها فيها حُظُوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقامرة لَهْوا ولَعِبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمُعْدِم في زمن الشّتاء وكَلَب البَرْد وتعذّر التَحرّف. وقال مجاهد: الأزلام هي كِعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها. وقال سفيان ووكِيع: هي الشَّطْرَنْج؛ فالاستقسام بهذا كله هو طلب القَسْم والنَصِيب كما بيّنا، وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام، وكل مُقَامَرة بحَمامَ أو بنَردْ أو شِطْرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو ٱستقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كلّه؛ وهو ضرب من التّكَهَن والتعرّض لدعوى عِلم الغَيْب. قال ٱبن خُوَيْزِ مَنْدَاد: ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المُنَجِّمون على الطرقات من السهام التي معهم، ورِقاع الفأل في أشباه ذلك. وقال الكِيَا الطبري: وإنما نَهَى الله عنها فيما يتعلقّ بأمور الغيب؛ فإنه لا تدري نفس ماذا يُصِيبها غَداً، فليس للأزلام في تعريف المغيبّات أثر؛ فٱستنبط بعض الجاهلين من هذا الردّ على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العِتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بُني على الأخبار الصحيحة، وليس مما يُعْتَرض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام؛ فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشّرع خروج القُرْعَة علماً على إثبات حكم العِتق قَطْعاً للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فَعَلت كذا أو قُلْت كذا فذلك يَدلّك في المستقبل.، على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يُجعَل خروج القِدَاح عَلَما على شيء يتجدّد في المستقبل، ويجوز أن يَجْعَل خروج القُرْعَة عَلَماً على العتْق قَطْعاً؛ فظهر ٱفتراق البابيْن.

التاسعة عشرة ـ وليس من هذا الباب طلب الفأْل. وكان عليه الصلاة والسلام يُعجبه أن يسمع يا راشد يا نَجيح؛ أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح غريب؛ وإنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النّفْس وتَستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل: فيحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ، وقد قال: "أنا عند ظنّ عبدي بي" . وكان عليه السلام يكره الطِّيرة؛ لأنها من أعمال أهل الشِّرْك؛ ولأنها تجلب ظنّ السّوء بالله عزّ وجلّ. قال الخطابي: الفرق بين الفأْل والطيِّرة أن الفأْل إنما هو من طريق حسن الظّنّ بالله، والطيِّرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه. وقال ٱلأصمعي: سألت ٱبن عَوْن عن الفأل فقال: هو أن يكون مريضاً فيسمع يا سالم، أو يكون باغياً فيسمع يا واجد، وهذا معنى حديث الترمذي؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيِرة وخَيْرُها الفَأَل قيل: يا رسول الله وما الفأَل؟ قال: الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم" . وسيأتي لمعنى الطِّيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى. رُوي عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: إنما العِلْم بالتّعلُّم والحِلْم بالتَحلُّم، ومن يتَحرّ الخير يُعْطَه، ومن يَتَوقَّ الشَّرّ يُوقَه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا؛ من تَكَهّن أو استقسم أو رجع من سَفَر من طيرة.

الموفية عشرين ـ قوله تعالى: { ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } إشارة إلى الاستقسام بالأزلام. والفِسْق الخروج، وقد تقدّم. وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرّمات، وكل شيء منها فِسق وخروج من الحلال إلى الحرام، والاْنكفاف عن هذه المحرّمات من الوفاء بالعقود؛ إذ قال: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

الحادية والعشرون ـ قوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفّاراً. قال الضّحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتَح مكة لثمان بَقين من رمضان سنة تِسع، ويقال: سنة ثمان، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أَلاَ من قال لا إلٰه إلاَّ الله فهو آمِن، ومن وضَع السَّلاح فهو آمِن، ومن أغلق بابه فهو آمِن" . وفي «يئس» لغتان؛ يَئِسَ ييئس يأسَاً، وأَيِس يَأْيسَ إياساً وإياسَة؛ قاله النضر بن شُمَيْل. { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ } أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم.

الثانية والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلاَّ فريضة الصَّلاة وحدها، فلما قَدِم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حجّ؛ فلما حجّ وكمل الدين نزلت هذه الآية { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية؛ على ما نبيّنه. رَوى الأئمّة عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أُنزلت معشر اليهود لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً؛ قال: وأيّ آية؟ قال: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً } فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي أُنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَرَفَة في يوم جُمعة. لفظ مسلم. وعند النسائي ليلة جمعة. ورُوِي أنها "لما نزلت في يوم ٱلحجّ الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يُبْكِيك؟ فقال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من دِيننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلاَّ نَقَص. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت" . ورَوى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة.

قلت: القول الأول أصحّ، أنها نزلت في يوم جُمعة وكان يوم عَرَفة بعد العصر في حجّة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعَرَفَة على ناقته العَضْبَاء، فكاد عضدُ الناقة يَنْقَدّ من ثقلها فبركت. و «ٱليومُ» قد يُعبَّر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه؛ تقول: فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السَّنَة؛ وذلك مستعمل في لسان العرب والعَجم. والدِّين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا؛ فإنها نزلت نُجُوماً وآخر ما نَزَل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حُكْم، قاله ٱبن عباس والسُّدّي. وقال الجمهور: المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الرّبا، ونزلت آية ٱلكَلاَلة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج، إذ لم يَطُف معهم في هذه السَّنَة مُشرك، ولا طاف بالبيت عُريان، ووقف الناس كلّهم بعرفة. وقيل: { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بأن أهلكت لكم عدوّكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول: قد تمّ لنا ما نريد إذا كُفِيت عدوّك.

الثالثة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } أي بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وَعَدتكم، إذ قلت: { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } وهي دخول مكة آمنين مطمئنين وغير ذلك مما ٱنتظمته هذه الملّة الحنيفيّة إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالىٰ.

الرابعة والعشرون ـ لعل قائلاً يقول: قوله تعالىٰ: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يدلّ على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شَهدوا بَدْراً وٱلحُدَيبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعاً، وبَذَلوا أنفسهم لِلَّهِ مع عظيم ما حَلّ بهم من أنواع المِحَن ماتوا على دين ناقص، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دِين ناقص، ومعلوم أن النَّقْص عَيْب، ودين الله تعالىٰ قِيمَ، كما قال تعالىٰ: { { دِيناً قِيَماً } [الأنعام: 161] فالجواب أن يُقال له: لم قلت إن كلّ نقص فهو عَيْب وما دليلك عليه؟ ثم يُقال له: أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيْباً، ونقصان صلاة المسافر أهو عَيْب لها، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: { { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [فاطر: 11] أهو عَيْب له، ونُقْصان أيام الحيض عن المعهود، ونُقْصان أيام الحمل، ونقصان المال بِسَرقة أو حرِيق أو غَرَق إذا لم يَفْتقر صاحبه، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدّين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالىٰ هذه ليست بشَيْن ولا عيب، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالىٰ: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يخرج على وجهين:

أحدهما ـ أن يكون المراد بلّغته أقصى ٱلحدّ الذي كان له عندي فيما قضيته وقدّرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصاً نُقْصان عيب، لكنه يُوصف بنقصان مُقَيّد فيقال له: إنه كان ناقصاً عما كان عند الله تعالىٰ أنه مُلْحِقه به وضَامُّه إليه؛ كالرجل يُبلغه الله مائة سنة فيقال: أكمل الله عمره؛ ولا يجب عن ذلك أن يكون عُمره حين كان ٱبن ستّين كان ناقصاً نقص قصور وخلل؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من عمّره الله ستّين سنة فقد أعذر إليه في ٱلعُمر" . ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيّد فيقال: كان ناقصاً عما كان عند الله تعالىٰ أنه مُبلغه إياه ومُعمّره إليه. وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات؛ فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحاً، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة قصور وخلَلَ؛ ولو قيل: كانت ناقصة عما عند الله أنه ضَامُّه إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحاً فهكذا، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئاً فشيئاً إلى أن أنهى الله الدِّين منتهاه الذي كان له عنده. والله أعلم.

والوجه الآخر ـ أنه أراد بقوله: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أنه وفقهم للحجّ الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدِّين غيره، فحجّوا؛ فٱستجمع لهم الدِّين أداء لأركانه وقياماً بفرائضه؛ فإنه يقول عليه السَّلام: "بُنِيَ الإسلام على خَمْس" الحديثَ. وقد كانوا تشهّدوا وصلّوا وزكّوا وصاموا وجاهدوا وٱعتمروا ولم يكونوا حجّوا؛ فلما حجّوا ذلك اليوم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالىٰ وهم بالموقف عَشِيّة عرفة { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } فإنما أراد أكمل وَضْعَه لهم؛ وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام.

الخامسة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً } أي أعلمتكم برضاي به لكم ديناً؛ فإنه تعالىٰ لم يزل راضياً بالإسلام لنا ديناً؛ فلا يكون لاختصاص الرّضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره. و «دِيناً» نُصِب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان. وقيل: المعنى ورضيت عنكم إذا ٱنقدتم لي بالدين الذي شَرعته لكم. ويحتمل أن يريد «رَضِيتُ لَكُمُ الاۤسْلاَمَ دِيناً» أي رضِيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم ديناً باقياً بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئاً. والله أعلم. و «الإسلام» في هذه الآية هو الذي في قوله تعالىٰ: { { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران: 19] وهو الذي يفسّر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصَّلاة والسَّلام وهو الإيمان والأعمال والشُّعب.

السادسة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } يعني من دَعَته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرّمات في هذه الآية. وٱلمَخْمَصة الجوع وخَلاَء الْبَطْن من الطعام. وٱلْخَمْص ضمور البطن. ورجل خَمِيص وخُمْصَان وٱمرأة خَمِيصَة وخُمْصَانة؛ ومنه أَخْمص القدم، ويستعمل كثيراً في الجُوعِ والْغرث؛ قال الأعشى:

تَبِيتون في ٱلمَشْتَى ملاءً بُطُونكموجاراتُكم غَرْثىٰ يَبِتْن خَمَائصا

أي منطويات على الجوع قد أضَمر بطونهنّ. وقال النابغة في خَمْص البطن من جهة ضُمْره:

والبطن ذو عُكَنٍ خَمِيصٌ ليّنٌوالنّحْر تَنْفُجُه بِثَدْيٍ مُقْعَدِ

وفي الحديث: "خِمَاص البطون خِفافُ الظّهور" . الخِمَاص جميع الخميص البطن، وهو الضّامر. أخبر أنهم أعِفّاء عن أموال الناس؛ ومنه الحديث: "إن الطير تَغْدو خِمَاصاً وتَرُوح بِطاناً" . وٱلخمِيصة أيضاً ثوب؛ قال الأصمعيّ: الخَمَائِص ثياب خَزٍّ أو صوف مُعْلَمَة، وهي سوداء، كانت من لباس الناس. وقد تقدّم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة.

السابعة والعشرون ـ قوله تعالىٰ: { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ» وقد تقدّم. والجَنَف الميل، والإثم الحرام؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تَجَانَفْنَا فيه لإثم؛ أي مَا مِلْنا ولا تعمّدنا ونحن نعلمه: وكل مائل فهو مُتَجَانِف وجنِف. وقرأ النَّخَعيّ ويحيى بن وَثَّاب والسُّلَمي «مُتَجَنِّف» دون ألف، وهو أبلغ في المعنى؛ لأن شدّ العين يقتضي مبالغة وتوغُّلاً في المعنى وثبوتاً لحُكْمه؛ وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتَّقرّب منه؛ ألا ترى أنك إذا قلت: تمايل الغُصْن فإن ذلك يقتضي تأوُّداً ومقاربة مَيل، وإذا قلت: تمَيّل فقد ثبت حكم المَيْل، وكذلك تَصاون الرّجل وتَصوّن، وتعقَّل؛ فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده؛ قاله قتادة والشافعي. { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فإن الله له غفور رحيم فحذف؛ وأنشد سيبويه:

قد أصبَحَتْ أُمُّ الخيارِ تدّعِيعليّ ذَنْباً كلّهُ لم أصْنَعِ

أراد لم أصنعه فحذف. والله أعلم.