التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه سبع وعشرون مسئلة:

الأُولى ـ قوله تعالى: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } الآية. لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض والفساد، ذكر حكم السارق من غير حِراب على ما يأتي بيانه أثناء الباب؛ وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على ما نبينه آخر الباب. وقد قُطِع السارق في الجاهلية، وأوّل من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المُغيِرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام، فكان أوّل سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخِيَار بن عَديّ بن نوفل ابن عبد مناف، ومن النساء مُرَّة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم، وقطع أبو بكر يد اليمنيّ الذي سرق العِقْد؛ وقطع عمر يد ٱبن سَمُرة أخي عبد الرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه. وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك؛ لقوله عليه السلام: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" فبين أنه إنما أراد بقوله: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ } بعض السراق دون بعض؛ فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، أو فيما قيمته ربع دينار؛ وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعليّ رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعيّ وأبو ثور؛ وقال مالك: تُقطَع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما. والعُروضُ لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قَلّ الصرفُ أو كَثُر؛ فجعل مالك الذهب والورِق كل واحد منهما أصلاً بنفسه، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور. وقال أحمد وإسحاق: إن سرق ذهباً فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة فكانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق. وهذا نحو ما صار إليه مالك في القول الآخر؛ والحجة للأوّل حديث ٱبن عمر: أن رجلاً سرق حَجَفَة، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقوّمت بثلاثة دراهم. وجعل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلاً ردّ إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورُخْصه، وترك حديث ٱبن عمر لما رآه ـ والله أعلم ـ من ٱختلاف الصحابة في المَجنّ الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فٱبن عمر يقول: ثلاثة دراهم؛ وٱبن عباس يقول: عشرة دراهم؛ وأنس يقول: خمسة دراهم؛ وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه، ورفعه من يَجِب العملُ بقوله لحفظه وعدالته؛ قاله أبو عمر وغيره. وعلى هذا فإن بلغ العَرَض المسروق ربع دينار بالتقويم قُطع سارقه؛ وهو قول إسحاق؛ فقفْ على هذين الأصلين فهما عمدة الباب، وهما أصح ما قيل فيه. وقال أبو حنيفة وصاحباه والثَّوْريّ: لا تُقطَع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا، أو دينار ذهباً عيناً أو وزناً؛ ولا يُقطَع حتى يَخرج بالمتاع من ملك الرجل؛ وحجتهم حديث ابن عباس؛ قال: قُوّم المِجنّ الذي قَطَع فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم. ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: كان ثمن المجنّ يومئذ عشرة دراهم؛ أخرجهما الدَّارَقُطْنيّ وغيره. وفي المسألة قولٌ رابع، وهو ما رواه الدَّارَقُطْنيّ عن عمر قال: لا تُقطَع الخَمْس إلا في خَمْس؛ وبه قال سليمان بن يَسار وٱبن أبي ليلى وٱبن شُبْرُمة؛ وقال أنس بن مالك: قطع أبو بكر ـرحمه الله ـ في مِجِنّ قيمته خمسة دراهم. وقول خامس: وهو أن اليد تُقطَع في أربعة دراهم فصاعداً؛ رُوي عن أبي هُريرة وأبي سعيد الخُدْريّ. وقول سادس: وهو أن اليد تُقطَع في درهم فما فوقه؛ قاله عثمان البَتّيّ. وذكر الطَّبَريّ أن عبد الله بن الزُّبير قَطَع في درهم. وقول سابع: وهو أن اليد تُقطَع في كل ماله قيمة على ظاهر الآية؛ هذا قول الخوارج، ورُوي عن الحسن البصريّ، وهي إحدى الروايات الثلاث عنه، والثانية كما رُوي عن عمر، والثالثة حكاها قَتَادة عنه أنه قال: تَذَاكَرْنا القطع في كَمْ يكون على عهد زياد؟ فاتفق رأينا على درهمين. وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدّمناه لك؛ فإن قيل: قد روَى البخاريّ ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحَبْل فتُقطَع يده" . وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير؛ فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في مَعْرِض التّرغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام: "مَن بَنى لله مسجداً ولو مِثْل مَفْحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة" .

وقيل: إن ذلك مجاز من وجه آخر؛ وذلك أنه إذا ضَري بسرقة القليل سَرَق الكثير فقطعت يده. وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال: كانوا يرون أنه بيْض الحديد، والحَبْلُ كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم.

قلت: كحبال السفينة وشبه ذلك. والله أعلم.

الثانية ـ ٱتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حِرْز ما يجب فيه القطع. وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا جمع الثياب في البيت قُطِع. وقال الحسن بن أبي الحسن أيضاً في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار ٱتفاقاً صحيحاً. والحمدلله.

الثالثة ـ الحِرْز هو ما نُصِب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله على ما يأتي بيانه. قال ابن المنذر ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم، وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم. وحُكي عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحِرْز. وفي الموطأ لمالك عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في ثَمَرٍ مُعَلق ولا في حَريسة جَبَل فإذا آواه المَرَاح أو الجَرِين فالقطع فيما بَلَغَ ثمن المِجَنّ" قال أبو عمر: هذا حديث يتصل معناه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره، وعبد الله هذا ثقة عند الجميع، وكان أحمد يُثْني عليه. وعن عبدالله بن عمرو "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن الثَّمَر المُعَلق فقال: مَن أصاب منه من ذي حاجة غيرَ متخذ خُبْنَة فلا شيء عليه ومن خَرَج بشيء منه فعليه القطع ومن سَرَق دون ذلك فعليه غَرامةٌ مِثليه والعقوبة" وفي رواية "وجلدَات نَكَالَ" بدل «والعقوبة». قال العلماء: ثم نُسِخ الجَلْد وجُعِل مكانه القطع. قال أبو عمر: قوله "غرامة مثليه" منسوخ لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطِب ٱبن أبي بلْتَعَة؛ خرّجه مالك؛ ورواية عن أحمد بن حَنْبَل. والذي عليه الناس من الغُرم بالمثل؛ لقوله تعالى: { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194] ورَوى أبو داود عن صفوان بن أُمَيَّة قال: كنت نائماً في المسجد على خَمِيصة لي ثمن ثلاثين درهماً. فجاء رجل فاختلسها منِّي، فأُخذ الرجل فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؛ قال "فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به" . ومن جهة النظر أن الأموال خلقت مُهَيَّأة للإنتفاع بها للخلق أجمعين، ثم الحكمة الأوّلية حكمت فيها بالإختصاص الذي هو الملك شرعاً، وبقيت الأطماع متعلقة بها، والآمال مُحوَّمة عليها؛ فَتَكُفُّها المروءة والدّيانة في أقل الخلق، ويَكفُّها الصون والحِرْز عن أكثرهم، فإذا أحرزها مالكها فقد ٱجتمع فيها الصَّوْن والحِرْز الذي هو غاية الإمكان للإنسان؛ فإذا هُتكا فَحُشت الجريمة فعظمت العقوبة، وإذا هُتِك أحد الصَّوْنين وهو الملك وجب الضمان والأدب.

الرابعة ـ فإذا ٱجتمع جماعة فٱشتركوا في إخراج نِصاب من حِرْزه فلا يخلو، إمّا أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أوْ لا إلاّ بتعاونهم، فإذا كان الأوّل فاختلف فيه علماؤنا على قولين: أحدهما يُقْطَع فيه، والثاني لا يُقطَع فيه؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ قالا: لا يُقطَع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حِصَّته نِصاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقطع يَد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصاباً فلا قطعَ عليهم ووجه القطع في إحدىٰ الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالإشتراك في القتل؛ قال ٱبن العربيّ: وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء؛ لئلا يتعاون على سفكها الأعداء، فكذلك في الأموال مثله؛ لاسيما وقد ساعدنا الشافعيّ على أنَّ الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قُطِعوا ولا فرق بينهما. وإن كان الثاني وهو مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يُقطَع جميعهم بالاتفاق من العلماء؛ ذكره ٱبن العربي.

الخامسة ـ فإن اشتركوا في السرقة بأن نَقَب واحد الحِرْز وأخرج آخر، فإن كانا متعاونين قُطِعاً. وإن ٱنفرد كل منهما بفعله دون اتفاق بينهما، بأن يجيء آخر فيُخْرِج فلا قطع على واحد، منهما. وإن تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة؛ وقال الشافعي: لا قطع؛ لأن هذا نَقَب ولم يَسرق، والآخر سَرَق من حِرْز مهتوك الحُرمة. وقال أبو حنيفة: إن شارك في النّقب ودخل وأخذ قُطع. ولا يشترط في الإشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة؛ بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة.

السادسة ـ ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحِرْز فأدخل الآخر يده فأخذه فعليه القطع، ويعاقب الأوّل؛ وقال أشهب: يُقطَعان. وإن وضعه خارج الحِرْز فعليه القطع لا على الآخذ، وإن وضعه في وسط النّقب فأخذه الآخر والتقت أيديهما في النقب قُطِعا جميعاً.

السابعة ـ والقبر والمسجد حِرْز فيُقطَع النَّبَّاش عند الأكثر؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه؛ لأنه سرق من غير حِرْز مالاً معرّضاً للتلف لا مالك له: لأن الميت لا يملك. ومنهم من ينكر السرقة؛ لأنه ليس فيه ساكن، وإنما تكون السرقة بحيث تُتَّقى الأعين، ويتحفظُ من الناس؛ وعلى نفي السرقة عوّل أهل ما وراء النهر. وقال الجمهور: هو سارق لأنه تدرع الليل لباساً وٱتقى الأعين، وقصد وقتاً لا ناظر فيه ولا مارّ عليه، فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت بروز الناس للعيد، وخلوّ البلد من جميعهم. وأما قولهم: إن القبر غير حِرْز فباطل؛ لأن حرْز كل شيء بحسب حاله الممكنة فيه. وأما قولهم: إن الميت لا يملك فباطل أيضاً؛ لأنه لا يجوز ترك الميت عارياً فصارت هذه الحاجة قاضية بأن القبر حِرْز. وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: { { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً } [المرسلات:25] { { أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } [المرسلات: 26] ليسكن فيها حياً، ويدفن فيها ميتاً. وأما قولهم: إنه عُرْضة للتلف؛ فكل ما يلبَسه الحي أيضاً معرّض للتلف والإخلاق بلباسه، إلا أن أحد الأمرين أعجل من الثاني؛ وقد رَوى أبو داود " عن أبي ذرّ قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنت إذا أصاب الناس موتٌ يكون البيت فيه بالوَصيف، يعني القبر، قلت: الله ورسوله أعلم قال: عليك بالصبر" قال حماد: فبهذا قال من قال تقطع يد السارق؛ لأنه دخل على الميت بيته. وأما المسجد، فمن سرق حُصُره قُطِع؛ رواه عيسى عن ابن القاسم، وإن لم يكن للمسجد باب؛ ورآها مُحرزَة. وإن سرق الأبواب قطع أيضاً؛ ورُوي عن ابن القاسم أيضاً إن كانت سرقته للحُصُر نهاراً لم يُقطَع، وإن كان تسوّر عليها ليلاً قُطِع؛ وذكر عن سُحْنُون إن كانت حُصُره خيط بعضها إلى بعض قُطِع، وإلاّ لم يُقطَع. قال أَصْبَغ: يُقطع سارق حُصُر المسجد وقناديله وبلاطه، كما لو سرق بابه مُسْتَسِراً أو خشبة من سقفه أو من جَوَائزه. وقال أشهب في كتاب محمد: لا قطع في شيء من حُصُر المسجد وقناديله وبلاطه.

الثامنة ـ وٱختلف العلماء هل يكون غُرمٌ مع القطع أو لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجتمع الغُرم مع القطع بحال، لأن الله سبحانه قال: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } ولم يذكر غُرْماً. وقال الشافعي: يَغرَم قيمة السرقة موسراً كان أو معسراً، وتكون دَيْناً عليه إذا أيسر أدّاه؛ وهو قول أحمد وإسحاق. وأما علماؤنا مالك وأصحابه فقالوا: إن كانت العين قائمة ردّها، وإن تَلِفت فإن كان موسراً غَرِم، وإن كان معسراً لم يُتْبع به دَيْناً ولم يكن عليه شيء؛ وروى مالك مثل ذلك عن الزُّهري؛ قال الشيخ أبو إسحاق: وقد قيل إنه يُتْبع بها دَيْناً مع القطع موسراً كان أو معسراً؛ قال: وهو قول غير واحد من علمائنا من أهل المدينة، وٱستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين فلا يُسْقِط أحدهما الآخر كالدّية والكفّارة، ثم قال: وبهذا أقول. واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقيم على السارق الحدّ فلا ضمان عليه" وأسنده في كتابه. وقال بعضهم: إن الإتباع بالغُرم عقوبة، والقطع عقوبة، ولا تجتمع عقوبتان؛ وعليه عوّل القاضي عبدالوهاب. والصحيح قول الشافعي ومن وافقه؛ قال الشافعي: يَغرَم السارق ما سَرق موسراً كان أو معسراً؛ قُطِع أو لم يُقطَع، وكذلك إذا قَطَع الطريق؛ قال: ولا يُسقِط الحدُّ لله ما أتلِف للعباد، وأما ما اصبَحّ به علماؤنا من الحديث إذا كان معسراً فيه احتج الكوفيون وهو قول الطَّبري، ولا حجة فيه؛ رواه النسائي والدَّارَاقُطْنيّ عن عبد الرحمن بن عوف. قال أبو عمر: هذا حديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة؛ وقال ابن العربي: وهذا حديث باطل، وقال الطبري: القياس أن عليه غَرْمُ ما استهلك ولكن تركنا ذلك ٱتباعاً للأَثَر في ذلك. قال أبو عمر: ترك القياس لضعيف الأَثر غير جائز؛ لأن الضعيف لا يوجب حُكْماً.

التاسعة ـ وٱختلف في قطع يد من سَرق المال من الذي سرقه؛ فقال علماؤنا: يُقطع. وقال الشافعي: لا يقطع؛ لأنه سَرق من غير مالك ومن غير حِرْز. وقال علماؤنا: حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه، ويد السارق كَلاَيد، كالغاصِب لو سُرِق منه المال المغصوب قُطِع؛ فإن قيل: اجعلوا حِرزه كَلاَ حِرْز؛ قلنا: الحِرْز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز.

العاشرة ـ وٱختلفوا إذ كرر السرقة بعد القطع في العين المسروقة؛ فقال الأكثر: يُقطَع. وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه. وعموم القرآن يوجب عليه القطع، وهو يرد قوله. وقال أبو حنيفة أيضاً في السارق يملك الشيء المسروق بشراء أو هبة قبل القطع: فإنه لا يُقطَع، والله تعالى يقول: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } فإذا وجب القطع حقاً لله تعالى لم يسقطه شيء.

الحادية عشرة ـ قرأ الجمهور «وَالْسَّارِقُ» بالرفع. قال سيبويه: المعنى وفيما فُرِض عليكم السارق والسارقة. وقيل: الرفع فيهما على الإبتداء والخبر { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا }. وليس القصد إلى معين إذ لو قصد معيناً لوجب النصب؛ تقول: زيداً ٱضربه؛ بل هو كقولك: من سرق فاقطع يده. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار. وقرىء «وَالسَّارِقَ» بالنصب فيهما على تقدير ٱقطعوا السارق والسارقة؛ وهو ٱختيار سيبويه لأن الفعل بالأمر أولى؛ قال سيبويهرحمه الله تعالى: الوجه في كلام العرب النصب كما تقول: زيداً ٱضربه؛ ولكن العامة أبت إلا الرفع؛ يعني عامة القراء وجُلّهم، فأنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين. وقرأ ابن مسعود «وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ» وهو يقوي قراءة الجماعة. والسَّرِق والسَّرِقَة بكسر الراء فيهما هو ٱسم الشيء المسروق، والمصدر من سَرق يَسرِق سَرَقاً بفتح الراء. قاله الجوهري. وأصل هذا اللفظ إنما هو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه ٱسترق السمع، وسارقه النظر. قال ابن عَرَفة: السارق عند العرب هو من جاء مستتراً إلى حِرْز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختِلس ومُستِلب ومُنتهِب ومُحتِرس، فإن تمنع بما في يده فهو غاصب.

قلت: وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأسوأ السرقة الذي يَسرِق صلاته قالوا: وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها" أخرجه الموطأ وغيره، فسماه سارقاً وإن كان ليس سارقاً من حيث هو موضع الإشتقاق، فإنه ليس فيه مسارقة الأعين غالباً.

الثانية عشرة ـ قوله تعالى: { فَٱقْطَعُوۤاْ } القطع معناه الإبانة والإزالة، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته. فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف؛ وهي البلوغ والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه وِلاية، فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده، وكذلك السيد إن أخذ مال عبده لا قطع بحال؛ لأن العبد وماله لسيده. ولم يُقطَع أحد بأخذ مال عبده لأنه آخذ لماله، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول الخليفة: غلامكم سرق متاعكم. وذكر الدَّارَقُطْني عن ٱبن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ولا على الذمي" قال: لم يرفعه غير فهد بن سليمان، والصواب أنه موقوف. وذكر ابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سرق العبد فبيعوه ولو بنَشٍّ" أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدّثنا أبو أسامة عن أبي عَوَانة عن عمر بن أبي سَلمَة عن أبيه عن أبي هُرَيرة؛ قال ٱبن ماجه: وحدّثنا جُبَارَة بن المُغَلَّس حدّثنا حجاج بن تميم عن ميمون بن مِهران عن ابن عباس: " أن عبداً من رقيق الخُمس سرق من الخُمس، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه. وقال: مالُ اللّهِ سَرَق بعضه بعضاً" وجُبَارة بن المغَلِّس متروك؛ قاله أبو زُرْعَة الرَّازِي. ولا قطع على صبي ولا مجنون. ويجب على الذمي والمعاهد، والحربي إذا دخل بأمان. وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف؛ وهي النّصاب وقد مضى القول فيه. وأن يكون مما يُتمول ويتملك ويحل بيعه، وإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع فيه باتفاق حاشا الحر الصغير عند مالك وابن القاسم؛ وقيل: لاقطع عليه؛ وبه قال الشافعي وأبوحنيفة؛ لأنه ليس بمال. وقال علماؤنا: هو من أعظم المال؛ ولم يقطع السارق في المال لعينه، وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد. وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا، ففي ذلك اختلاف بين ٱبن القاسم وأشهب قال ابن القاسم: ولا يقطع سارق الكلب؛ وقال أشهب: ذلك في المنهيّ عن اتخاذه، فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه. قال: ومن سرق لحم أْضْحِيَّة أو جلدها قطع إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم. وقال ابن حبيب قال أَصَبَغ: إن سرق الأُضْحِيَّة قبل الذبح قُطِع، وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع. وإن كان مما يجوز إتخاذ أصله وبيعه، فصنع منه ما لا يجوز استعماله كالطُّنْبُور والملاهي من المزمار والعود وشبهه من آلات اللهو فينظر؛ فإن كان يبقى منها بعد فساد صورها وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر قطع. وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز إستعمالها ويؤمر بكسرها فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة. وكذلك الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصاباً قطع فيه. الوصف الثالث؛ ألا يكون للسارق فيه ملك، كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره، ولا شُبْهة مِلك، على إختلاف بين علماؤنا وغيرهم في مراعاة شُبهْة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال؛ لأن له فيه نصيباً. وروى عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل سَرَق مغفرا من الخُمْس فلم ير عليه قطعاً وقال: له فيه نصيب. وعلى هذا مذهب الجماعة في بيت المال. وقيل يجب عليه القطع تعلقاً بعموم لفظ آية السرقة. وأن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير والأعجمي الكبير، لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح فإنه لا يقطع فيه. وأما ما يعتبر في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق. وجملة القول فيه أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حِرْزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حِرْزه؛ فالدور والمنازل والحوانيت حِرْز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حِرْز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئاً. وإن كان قبل السرقة ممن يجوز أن يعطيه الإمام، وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية؛ ألا ترى أن الإمام قد يجوز أن يصرف جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح ولا يفرقه في الناس، أو يفرقه في بلد دون بلد آخر ويمنع منه قوماً دون قوم؛ ففي التقدير أن هذا السارق ممن لا حق له فيه. وكذلك المغانم لا تخلو: أن تتعين بالقسمة؛ فهو ما ذكرناه في بيت المال؛ أو تتعين بنفس التناول لمن شهد الوقعة؛ فيجب أن يراعى قدر ما سرق، فإن كان فوق حقه قطع وإلا لم يقطع.

الرابعة عشرة ـ وظهور الدواب حِرْز لما حملت، وأفنية الحوانيت حِرْز لما وضع فيها في موقف البيع وإن لم يكن هناك حانوت، كان معه أهله أم لا؛ سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها محرزة، كان معها أهلها أم لا؛ فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ؛ ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعاً مَرْبِطاً لدوابه فإنه حِرْز لها. والسفينة حِرْز لما فيها وسواء كانت سائبة أو مربوطة؛ فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه فربطها حِرز؛ وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة، كالدابة بباب المسجد معها حافظ؛ إلا أن يَنزلوا بالسفينة في سفرهم منزلاً فيربطوها فهو حِرز لها كان صاحبها معها أم لا.

الخامسة عشرة ـ ولا خلاف أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن كل رجل بيته على حدة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار، وإن لم يدخل بها بيته ولا خرج بها من الدار. ولا خلاف في أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئاً وإن أدخله بيته أو أخرجه من الدار؛ لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء، إلا أن تكون دابة في مَرْبطها أو ما يشبهها من المتاع.

السادسة عشرة ـ ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما؛ لقوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" . ويقطع في سرقة مالهما، لأنه لا شبهة له فيه. وقيل: لا يقطع؛ وهو قول ابن وهب وأشهب؛ لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة، ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال سيده فلأن لا يقطع ابنه في ماله أولى. وٱختلفوا في الجدّ؛ فقال مالك وابن القاسم: لا يقطع. وقال أشهب: يقطع. وقول مالك أصح لأنه أب؛ قال مالك: أحب إلي ألا يقطع الأجداد من قبل الأب والأم وإن لم تجب لهم نفقة. قال ابن القاسم وأشهب: ويقطع من سواهما من القرابات. قال ابن القاسم: ولا يقطع من سرق من جوع أصابه. وقال أبو حنيفة: لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم؛ وهو قول الثوري. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يقطع من سرق من هؤلاء. وقال أبو ثور: يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد؛ إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع والله أعلم.

السابعة عشرة ـ وأختلفوا في سارق المصحف؛ فقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور: يقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد؛ وبه قال ابن القاسم. وقال النعمان: لا يقطع من سرق مصحفاً. قال ابن المنذر: يقطع سارق المصحف. وٱختلفوا في الطّرار يَطُرّ النفقة من الكُمّ، فقالت طائفة: يقطع من طَرَّ من داخل الكُم أو من خارج؛ وهو قول مالك والأوزاعي وأبي ثور ويعقوب. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كُمّه فطَرَّها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكُمّ فأدخل يده فسرقها قطع. وقال الحسن: يقطع. قال ابن المنذر: يقطع على أي جهة طَرّ.

الثامنة عشرة ـ واختلفوا في قطع اليد في السفر، وإقامة الحدود في أرض الحرب؛ فقال مالك والليث بن سعد: تقام الحدود في أرض الحرب ولا فرق بين دار الحرب والإسلام. وقال الأُوزاعيّ: يقيم من غزا على جيش ـ وإن لم يكن أمير مصر من الأمصار ـ الحدود في عسكره غير القطع. وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه فيقيم الحدود في عسكره. استدل الأُوزاعيّ ومن قال بقوله بحديث جُنادة بن أبي أُمية قال: كنا مع بُسْر بن أَرْطاة في البحر، فأُتِي بسارق يقال له مِصدر قد سرق بُخْتِية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي في الغزو" ولولا ذلك لقطعته. بُسْر هذا يقال وُلِد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت له أخبار سوء في جانب عليّ وأصحابه، وهو الذي ذبح طفلين لعبيد الله بن العباس ففقدت أُمهما عقلها فهامت على وجهها، فدعا عليه عليّ رضي الله عنه أن يطيل الله عمره ويذهب عقله، فكان كذلك. قال يحيى بن مَعِين: كان بُسْر بن أَرْطاة رجل سوء. استدل من قال بالقطع بعموم القرآن؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وأولى ما يحتج به لمن منع القطع في أرض الحرب والحدود: مخافة أن يلحق ذلك بالشرك. والله أعلم.

التاسعة عشرة ـ فإذا قطعت اليد أو الرجل فإلى أين تقطع؟ فقال الكافة: تقطع من الرسغ والرجل من المَفْصِل، ويحسم الساق إذا قطع. وقال بعضهم: يقطع إلى المرفق. وقيل: إلى المَنْكِب، لأن ٱسم اليد يتناول ذلك. وقال عليّ رضي الله عنه: تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العِقب؛ وبه قال أحمد وأبو ثور. قال ابن المنذر: وقد روينا "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع يد رجل فقال: ٱحسِموها" وفي إسناده مقال؛ وٱستحب ذلك جماعة منهم الشافعيّ وأبو ثور وغيرهما، وهذا أحسن وهو أقرب إلى البرء وأبعد من التلف.

الموفية عشرين ـ لا خلاف أن اليمنى هي التي تقطع أولاً، ثم ٱختلفوا إن سرق ثانية؛ فقال مالك وأهل المدينة والشافعيّ وأبو ثور وغيرهم: تقطع رجله اليسرى، ثم في الثالثة يده اليسرى، ثم في الرابعة رجله اليمنى، ثم إن سرق خامسة يُعزّر ويُحبس. وقال أبو مُصْعَب من علمائنا: يقتل بعد الرابعة؛ واحتج بحديث خرّجه النسائيّ عن الحارث بن حاطب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِي بلص فقال: ٱقتلوه فقالوا؛ يا رسول الله إنما سرق قال: اقتلوه قالوا: يا رسول إنما سرق قال: ٱقطعوا يده قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضاً الخامسة فقال أبو بكر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: ٱقتلوه ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه؛ منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال: أَمِّروني عليكم فأَمَّروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه" . وبحديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة فقال: ٱقتلوه قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم ٱجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الحجارة" . رواه أبو داود وخرجه النسائيّ وقال: هذا حديث منكر وأحد رواته ليس بالقوي. ولا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً. قال ٱبن المنذر: ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل. وقيل: تقطع في الثانية رجله اليسرى ثم لا قطع في غيرها، ثم إذا عاد عزر وحبِس؛ وروى عن عليّ ابن أبي طالب، وبه قال الزُّهْرِيّ وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل. قال الزهريّ: لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل. وقال عطاء: تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع: ذكره ٱبن العربي وقال: أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافه.

الحادية والعشرون ـ وٱختلفوا في الحاكم يأمر بقطع يد السارق اليمنى فتقطع يساره فقال قَتَادة: قد أُقيم عليه الحدّ ولا يزاد عليه؛ وبه قال مالك: إذا أخطأ القاطع فقطع شماله، وبه قال أصحاب الرأي ٱستحساناً. وقال أبو ثور: على الحزاز الدّية لأنه أخطأ وتقطع يمينه إلا أن يمنع بإجماع. قال ٱبن المنذر: ليس يخلو قطع يسار السارق من أحد معنيين؛ إما أن يكون القاطع عَمَد ذلك فعليه القَود، أو يكون أخطأ فديته على عاقلة القاطع؛ وقطع يمين السارق يجب، ولا يجوز إزالة ما أوجب الله سبحانه بتعدّي معتد أو خطأ مخطىء. وقال الثوريّ في الذي يقتص منه في يمينه فيقدّم شماله فتقطع؛ قال: تقطع يمينه أيضاً. قال ٱبن المنذر: وهذا صحيح. وقالت طائفة: تقطع يمينه إذا برىء؛ وذلك أنه هو أتلف يساره، ولا شيء على القاطع في قول أصحاب الرأي، وقياس قول الشافعي. وتقطع يمينه إذا برئت. وقال قَتَادة والشعبيّ: لا شيء على القاطع وحسبه ما قُطِع منه.

الثانية والعشرون ـ وتعلق يد السارق في عنقه، قال عبد الله بن مُحَيْرِيز سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو؟ فقال: جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أَمَر بها فعلقت في عنقه؛ أخرجه الترمذيّ ـ وقال: حديث حسن غريب ـ وأبو داود والنسائي.

الثالثة والعشرون ـ إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلاً؛ فقال مالك: يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يقطع ويقتل؛ لأنهما حقان لمستحقين فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو اختيار ابن العربي.

الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى: { أَيْدِيَهُمَا } لما قال «أَيْدِيَهُمَا» ولم يقل يديْهما تكلم علماء اللسان في ذلك ـ قال ٱبن العربي: وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم ـ فقال الخليل بن أحمد والفرّاء: كل شيء يوجد من خلق الإنسان إذا أُضيف إلى ٱثنين جمع تقول: هشمت رؤوسهما وأشبعت بطونهما، و { { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4] ولهذا قال: «فَٱقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» ولم يقل يديْهما. والمراد فاقطعوا يميناً من هذا ويميناً من هذا. ويجوز في اللغة؛ فاقطعوا يديهما وهو الأصل؛ وقد قال الشاعر فجمع بين اللغتين:

ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِظُهراهما مِثْلُ ظُهورِ التُّرْسَينِ

وقيل: فُعِل هذا لأنه لا يشكل. وقال سيبويه: إذا كان مفرداً قد يجمع إذا أردت به التثنية، وحكى عن العرب؛ وضعا رِحالهما. ويريد به رحلي راحِلتيهما؛ قال ابن العربي: وهذا بناء على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك، بل تقطع الأيدي والأرجل، فيعود قوله «أيديهما» إلى أربعة وهي جمع في الاثنين، وهما تثنية فيأتي الكلام على فصاحته، ولو قال: فاقطعوا أيديهم لكان وجهاً؛ لأن السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة، وإنما هما ٱسما جنس يَعُمّان ما لا يحصى.

الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى: { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدراً وكذا { نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } يقال: نكلتُ به إذا فعلت به ما يوجب أن يَنْكُل به عن ذلك الفعل. { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالب { حَكِيمٌ } فيما يفعله؛ وقد تقدّم.

السادسة والعشرون ـ قوله تعالى: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } شرط؛ وجوابه { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ }. ومعنى { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } من بعد السرقة؛ فإن الله يتجاوز عنه. والقطع لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق. وقاله بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولاً. وتعلقوا بقول الله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } وذلك ٱستثناء من الوجوب، فوجب حمل جميع الحدود عليه. وقال علماؤنا: هذا بعينه دليلنا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حدّ المحارب قال: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } وعطف عليه حدّ السارق وقال فيه: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما. قال ابن العربي: ويا معشر الشافعية سبحان الله! أين الدقائق الفقهية، والحكم الشرعية، التي تستنبطونها من غوامض المسائل؟ٰ ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه، المعتدي بسلاحه، الذي يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف بالخيل والرّكاب كيف أسقط جزاءه بالتوبة ٱستنزالاً عن تلك الحالة، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف ٱستئلافاً على الإسلام؛ فأما السارق والزاني وهما في قبضة المسلمين وتحت حكم الإمام، فما الذي يسقط عنهم حكم ما وجب عليهم؟ٰ أو كيف يجوز أن يقال: يقاس على المحارب وقد فرّقت بينهما الحكمة والحالة! هذا ما لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين. وإذا ثبت أن الحدّ لا يسقط بالتوبة فالتوبة مقبولة والقطع كفارة له. «وَأَصْلَحَ» أي كما تاب عن السرقة تاب عن كل ذنب. وقيل: «وَأَصْلَحَ» أي ترك المعصية بالكلية، فأما من ترك السرقة بالزنى أو التهوّد بالتنصُّر فهذا ليس بتوبة، وتوبة الله على العبد أن يوفقه للتوبة. وقيل: أن تقبل منه التوبة.

السابعة والعشرون ـ يقال: بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السارقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك؟ فالجواب أن يقال: لما كان حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضعين؛ هذا أحد الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة «النور» من البداية بها على الزاني إن شاء الله. ثم جعل الله حدّ السرقة قطع اليد لتناول المال، ولم يجعل حدّ الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان: أحدها ـ أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن ٱنزجر بها ٱعتاض بالثانية، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو ٱنزجر بقطعه. الثاني ـ أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر: وقطع الذكر في الزنى باطن. الثالث ـ أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل وليس في قطع اليد إبطاله. والله أعلم.