التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
-المائدة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاثون مسألة:

الأولى ـ قوله تعالى: { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى: { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ } الآية. وروى أن أبا اليَسر ـ واسمه عمرو بن مالك الأنصاري ـ كان مُحْرِما عام الحديبية بعُمْرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }.

الثانية ـ قوله تعالى: { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ } القتل هو كل فعل يفيت الروح، وهو أنواع: منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه؛ فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مفيتاً للروح.

الثالثة ـ من قتل صيداً أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه جزاء ما أكل؛ يعني قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شيء عليه سوى الاستغفار؛ لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتةً أخرى؛ ولهذا لو أكلها محرِم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار. وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه؛ لأن قتله كان من محظورات الإحرام، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود ـ محظور إحرامه ـ موجباً عليه الجـزاء فما هو المقصود كان أولى.

الرابعة ـ لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله؛ وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد ذكاة؛ وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الأنعام؛ فأفاد مقصوده من حِل الأكل؛ أصله ذبح الحلال. قلنا: قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد؛ إذ الأهلية لا تستفاد عقلاً، وإنما يفيدها الشرع؛ وذلك بإذنه في الذبح، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح، والمحرم منهي عن ذبح الصيد؛ لقوله: { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ } فقد ٱنتفت الأهلية بالنهي. وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحِل له أكله، وإنما يأكل منه غيره عندكم؛ فإذا كان الذبح لا يفيد الحِلّ للذابح فأولى وأَحْرى ألا يفيده لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه؛ فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله.

الخامسة ـ قوله تعالى: { ٱلصَّيْدَ } مصدر عومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المَصِيد؛ ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بريٍّ وبحرِي حتى جاء قوله تعالى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } فأباح صيد البحر إباحة مطلقة؛ على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى.

السادسة ـ ٱختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه؛ فقال مالك: كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهِرّ والثعلب والضّبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم، وإن قتله فَدَاه. قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرِم، فإن قتلها فَدَاها؛ وهي مثل فراخ الغربان. ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب؛ مثل الأسد والذئب والنمر والفَهْد؛ وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحِدأة. قال إسماعيل: إنما ذلك لقوله عليه السلام: "خَمسٌ فَواسقُ يُقتلْن في الحِلّ والحرَم" الحديث؛ فسماهنّ فسّاقاً؛ ووصفهن بأفعالهن؛ لأن الفاسق فاعل للفسق، والصغار لا فعل لهن، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقِر؛ فلا تدخل في هذا النعت. قال القاضي إسماعيل: الكلب العَقُور مما يعظم ضرره على الناس. قال: ومن ذلك الحية والعقرب؛ لأنه يخاف منهما، وكذلك الحِدَأة والغراب؛ لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس. قال ابن بُكَير: إنما أُذن في قتل العقرب لأنها ذات حُمَة؛ وفي الفأرة لقرضها السّقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر. وفي الغراب لوقوعه على الظهر ونَقْبه عن لحومها؛ وقد روي عن مالك أنه قال: لا يقتل الغراب ولا الحِدَأة إلاَّ أن يضرا. قال القاضي إسماعيل: وٱختلف في الزُّنْبُور؛ فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزُّنْبُور لا يبتدىء لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العَدَاء ما في الحيّة والعقرب، وإنما يَحمي الزُّنْبُور إذا أُوذِي. قال: فإذا عرض الزُّنْبُور لأحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء في قتله؛ وثبت عن عمر ابن الخطاب إباحة قتل الزُّنْبُور. وقال مالك: يُطعِم قاتله شيئاً؛ وكذلك قال مالك فيمن قتل البُرْغُوت والذّباب والنّمل ونحوه. وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قاتل هذه كلها. وقال أبو حنيفة: لا يَقتل المحرمُ من السباع إلا الكلب العَقُور والذئب خاصة، سواء ٱبتدأه أو ٱبتدأهما؛ وإن قَتل غيره من السباع فدَاه. قال: فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه؛ قال: ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحِدَأة، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زُفَر؛ وبه قال الأوزاعي والثّوري والحسن؛ وٱحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دوابّ بأعيانها وأرخص للمحرِم في قتلها من أجل ضررها؛ فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها.

قلت: العجب من أبي حنيفةرحمه الله يحمل التراب على البُرّ بِعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادِية على الكلب بعلة الفِسْق والعَقْر، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله ٰ وقال زُفَر بن الهُذَيل: لا يقتل إلا الذئب وحده، ومن قتل غيره وهو مُحرِم فعليه الفِدية، سواء ٱبتدأه أو لم يبتدئه؛ لأنه عجماء فكان فِعله هَدَراً؛ وهذا ردّ للحديث ومخالفة له. وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله؛ وصغار ذلك وكِباره سواء، إلاَّ السِّمْع وهو المتولد بين الذئب والضّبع، قال: وليس في الرَّخَمَة والخنافس والقِرْدَان والحَلَم وما لا يؤكل لحمه شيء؛ لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } فدل أن الصيد الذي حُرّم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالاً؛ حكى عنه هذه الجملة المُزني والرّبيع؛ فإن قيل: فلم تُفدَى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل؟ قيل له: ليس تُفدى إلا على ما يُفدَى به الشَّعر والظُّفر ولُبس ما ليس له لُبْسه؛ لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته. فكأنه أماط بعض شعره؛ فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي؛ قاله أبو عمر.

السابعة ـ روى الأئمة عن ٱبن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَمسٌ من الدواب ليس على المحرِم في قتلهنّ جناح الغراب والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العَقُور" . اللفظ للبخاري؛ وبه قال أحمد وإسحاق. وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمسٌ فَواسِقُ يُقتلْن في الحِلّ والحرَمَ الحية والغراب ٱلأَبقع والفأرة والكلب العَقُور وٱلحُدَيَّا" وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا: لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة؛ لأنه تقييد مطلق. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ويرمي الغراب ولا يقتله" . وبه قال مجاهد. وجمهور العلماء على القول بحديث ٱبن عمر، والله أعلم. وعند أبي داود والترمذي: والسّبع العادي؛ وهذا تنبيه على العلة.

الثامنة ـ قوله تعالى ـ: { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عامّ في النوعين من الرجال والنساء، الأحرار والعبيد يقال: رجل حرام وٱمرأة حرام، وجمع ذلك حُرُم كقولهم: قَذَال وقُذُل. وأَحرم الرجلُ دخل في الحرم؛ كما يقال: أَسْهَلَ دخل في السهل. وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالإشتراك لا بالعموم. يقال: رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحُرم أو في الحَرَم، أو تلبّس بالإحرام؛ إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبراً، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف؛ قاله ابن العربي.

التاسعة ـ حَرَم المكان حَرَمان، حَرمُ المدينة وحَرَمُ مكة ـ وزاد الشافعي الطائف، فلا يجوز عنده قطع شجرهِ، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه ـ فأما حَرَم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما. وقال ٱبن أبي ذئب: عليه الجزاء. وقال سعد: جزاؤه أخذ سَلَبه، وروى عن الشافعي. وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرّم، وكذلك قطع شجرها. وٱحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سَلَبه" . وأخذ سعد سَلَب من فعل ذلك. قال: وقد ٱتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سَلَب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ. وٱحتج لهم الطحاوي أيضاً بحديث أنس: ما فعل النُّفَير؛ فلم ينكر صيده وإمساكه ـ وهذا كله لا حجة فيه، أما الحديث الأوّل فليس بالقويّ ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السَّلَب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرّم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم. وكذلك حديث عائشة: أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحَشْ فإذا خرج لَعِب واشتد وأَقبل وأَدبر، فإذا أَحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض، فلم يَتَرَمْرَم كراهية أن يؤذيه. ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ٱبن شهاب عن سعيد بن المسيّب "أن أبا هُريرة قال: لو رأيت الظّباء تَرتع بالمدينة ما ذَعَرتُها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين لابتيها حرام" فقول أبي هريرة ما ذَعَرتُها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة. وكذلك نزع زيد بن ثابت النُّهسَ ـ وهو طائر ـ من يد شُرَحْبيل بن سعد كان صاده بالمدينة؛ دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملّك ما يصطاد. ومتعلق ٱبن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "اللَّهُمَّ إنَّ إبراهيم حرّم مكة وإني أُحرم المدينة مثل ما حَرَم به مكة ومثله معه لا يُخْتلى خَلاَها ولا يُعضَد شجرُها ولا يُنفَّر صيدُها" ولأنه حرم مُنِع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة. قال القاضي عبد الوهاب: وهذا قول أقيس عندي على أُصولنا، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام. ومن حجة مالك والشافعي في ألاَّ يُحكم عليه بجزاء ولا أخذ سَلَب ـ في المشهور من قول الشافعي ـ عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "المدينة حَرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثَوْر فمن أحدث فيها حَدَثاً أو آوىٰ مُحدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفا ولا عَدْلاً" فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفّارة. وأما ما ذُكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به؛ لما روي عنه في الصحيح: أنه ركب إلى قصره بالعَقِيق، فوجد عبداً يقطع شجراً ـ أو يخبطه ـ فسَلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يردّ على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم؛ فقال: معاذ الله أن أردّ شيئاً نَفَّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يردّ عليهم؛ فقوله: «نَفَّلنيه» ظاهِرُهُ الخصوص. والله أعلم.

العاشرة ـ قوله تعالى: { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطىء والناسي؛ والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام. والمخطىء هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. وٱختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: الأول ـ ما أسنده الدَّارَقُطْني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلّظوا في الخطأ لئلا يعودوا. الثاني ـ أن قوله: «مُتَعَمِّداً» خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة. الثالث ـ أنه لا شيء على المخطىء والناسي؛ وبه قال الطَّبَري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جُبَير، وبه قال طاوس وأبو ثور، وهو قول داود. وتعلق أحمد بأن قال: لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر، دل على أن غيره بخلافه. وزاد بأن قال: الأصل براءة الذمة فمن ٱدعى شغلها فعليه الدليل. الرابع ـ أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان؛ قاله ٱبن عباس، وروى عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزُّهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم. قال الزُّهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسُّنة؛ قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعماً هي، وما أحسنها أسوة. الخامس ـ أن يقتله متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه ـ وهو قول مجاهد ـ لقوله تعالى بعد ذلك: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ }. قال: ولو كان ذاكراً لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأوّل مرة، قال: فدل على أنه أراد متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه؛ قال مجاهد: فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها؛ قال: ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه. ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكراً للإحرام أو ناسياً له، ولا يصح ٱعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان؛ وقد رُوِي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمداً، ويستغفر الله، وحَجُّهُ تام؛ وبه قال ابن زيد. ودليلنا على داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضَّبع فقال: هي صيد" وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشاً، ولم يقل عمداً ولا خطأ. وقال ٱبن بكير من علمائنا: قوله سبحانه: «مُتَعَمِّداً» لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وإنما أراد «متعمداً» ليبين أنه ليس كٱبن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمداً كفارة، وأن الصيد فيه كفّارة، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ. والله أعلم.

الحادية عشرة ـ فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حُكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم؛ لقول الله تعالى: { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرماً فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له. وروي عن ٱبن عباس قال: لا يحكم عليه مرتين في الإسلام، ولا يُحكم عليه إلا مرة واحدة، فإن عاد ثانية فلا يُحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك؛ لقوله تعالى: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ }. وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشُرَيْح. ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تَمَادي التحريم في الإحرام، وتوجه الخطاب عليه في دين الإسلام.

الثانية عشرة ـ قوله تعالى: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } فيه أربع قراءات؛ «فَجَزَاءٌ مِثْلُ» برفع جزاء وتنوينه، و «مِثْلُ» على الصفة. والخبر مضمر، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النَّعم. وهذه القراءة تقتضي أن يكون المِثل هو الجزاء بعينه. و «جَزَاءُ» بالرفع غير منون و «مِثْلِ» بالإضافة أي فعليه جزاءُ مثل ما قتل، و «مثل» مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك. ونظير هذا قوله تعالى: { { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَاتِ } [الأنعام: 122] التقدير كمن هو في الظلمات، وقوله: { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] أي ليس كهو شيء. وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل؛ إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه. وقال أبو علي: إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول. وهو قول الشافعي على ما يأتي. وقوله: «مِنَ النَّعَمِ» صفة لجزاء على القراءتين جميعاً. وقرأ الحسن «مِن النَّعْمِ» بإسكان العين وهي لغة. وقرأ عبد الرحمن «فَجَزَاءٌ» بالرفع والتنوين «مِثْلَ» بالنصب؛ قال أبو الفتح: «مِثْلَ» منصوبة بنفس الجزاء؛ والمعنى أن يجزى مثل ما قتل. وقرأ ابن مسعود والأعمش «فجزاؤه مِثل» بإظهار «هاء»؛ ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل.

الثالثة عشرة ـ الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى. وفي «المدونة»: من ٱصطاد طائراً فنتف ريشه ثم حبسه حتى نَسَل ريشه فطار، قال: لا جزاء عليه. قال وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئاً من أعضائه وسلِمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه. وقيل: عليه من الجزاء بقدر ما نقصه. ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه. ولو زَمِن الصيد ولم يلحق بالصيد، أو تركه مَحُوفاً عليه فعليه جزاؤه كاملاً.

الرابعة عشرة ـ ما يُجزى من الصيد شيئان: دوابٌ وطيرٌ فيُجزَى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصّورة، ففي النّعامة بَدنَة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة، وفي الظبي شاة؛ وبه قال الشافعي. وأقل ما يَجزى عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية؛ وذلك كالجَذَع من الضأن والثنيّ مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام. وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة؛ فإن في الحمامة منه شاة ٱتباعاً للسّلف في ذلك. والدُّبْسي والفَوَاخِت والقُمْريّ وذوات الأطواق كلّه حمام. وحكى ٱبن عبد الحَكَمْ عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة؛ قال: وكذلك حمام الحرم؛ قال: وفي حمام الحِلّ حكومة. وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخِلْقة، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله؛ فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاماً ويُطْعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر. وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوِّم المثل كما في المتلفات يقوّم المثل، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء فإن المثل هو الأصل في الوجوب؛ وهذا بيّن وعليه تخرج قراءة الإضافة «فَجَزَاءُ مِثْلِ». ٱحتج أبو حنيفة فقال: لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبراً. في النّعامة بَدَنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عَدلين يحكمان به؛ لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الإرتياء والنظر؛ وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه، ويضطرب وجه النظر عليه. ودليلنا عليه قول الله تعالى: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } الآية. فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخِلْقي الصّوري دون المعنى؛ ثم قال: { مِنَ ٱلنَّعَمِ } فبين جنس المثل؛ ثم قال: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم؛ لأنه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه، ثم قال: { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } والذي يتصور فيه الهَدْي مثل المقتول من النَّعم، فأما القيمة فلا يتصوّر أن تكون هديا، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، فصح ما ذكرناه. والحمد لله. وقولهم: لو كان الشبه معتبراً لما أوقفه على عَدلين؛ فالجواب أن ٱعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص.

الخامسة عشرة ـ من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره؛ وهو قول عطاء. ولا يُفدَى عند مالك شيء بعنَاقٍ ولا جَفْرة؛ قال مالك. وذلك مثل الدية، الصغير والكبير فيها سواءٌ. وفي الضّب عنده واليَرْبُوع قيمتهما طعاماً. ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد، وفي ٱعتبار الجَذَع والثَّني، ويقول بقول عمر: في الأرنب عَنَاق وفي اليَرْبوع جَفْرة؛ رواه مالك موقوفاً. وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عَنَاق وفي اليَرْبوع جَفْرة" قال: والجَفرة التي قد ٱرْتَعتْ. وفي طريق آخر قلت لأبي الزبير: وما الجَفْرة؟ قال: التي قد فُطِمَت ورَعَت. خرجه الدَّارَقُطْنيّ. وقال الشافعي: في النعامة بَدَنة، وفي فرخها فَصِيل، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سَخْلهِ عجل؛ لأن الله تعالى حكم بالمِثلية في الخلقة، والصغر والكبر متفاوتان فيجب ٱعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفَات. قال ٱبن العربيّ: وهذا صحيح وهو ٱختيار علمائنا؛ قالوا: ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسِيراً لكان المثل على صفته لتتحقق المِثلية، فلا يلزم المتلِف فوق ما أتلف. ودليلنا قوله تعالى: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } ولم يفصل بين صغير وكبير. وقوله: «هَدْياً» يقتضي ما يتناوله ٱسم الهدي لحقّ الإطلاق. وذلك يقتضي الهدي التام. والله أعلم.

السادسة عشرة ـ في بيض النعامة عُشْر ثمن البَدَنة عند مالك. وفي بيض الحمامة المكية عنده عُشْر ثمن الشاة. قال ٱبن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر؛ فإن ٱستهل فعليه الجزاء كاملاً كجزاء الكبير من ذلك الطير. قال ٱبن المواز: بحكومة عَدلين. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة. روى عِكرمة عن ٱبن عباس عن كعب بن عُجْرَة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرِم بقدر ثمنه؛ خرجه الدَّارَقُطْنيّ. وروى عن أبي هُريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين" .

السابعة عشرة ـ وأما ما لا مثل له كالعصافير والفِيلة فقيمة لحمه أو عَدله من الطعام، دون ما يراد له من الأغراض؛ لأن المراعَى فيما له مثلٌ وجوبُ مثله، فإن عُدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره. ولأن الناس قائلان ـ أي على مذهبين ـ معتبر للقيمة في جميع الصيد؛ ومقتصر بها على ما لا مثل له من النَّعم؛ فقد تضمن ذلك الإجماع على ٱعتبار القيمة فيما لا مثل له. وأما الفيل فقيل: فيه بَدَنة من الهجان العظام التي لها سنامان؛ وهي بيض خراسانية، فإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاماً، فيكون عليه ذلك؛ والعمل فيه أن يجعل الفيل في مَرْكب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركَب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عَدْله من الطعام. وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر.

الثامنة عشرة ـ قوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } روى مالك عن عبد الملك ابن قُرَيْب عن محمد بن سيرين أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثَغْرة ثَنِيّة، فأصبنا ظبياً ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت؛ فحكما عليه بعنز؛ فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلاً يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله؛ هل تقرأ سورة «المائدة»؟ فقال: لا؛ قال: هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا؛ فقال عمر رضي الله عنه: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة «المائدة» لأوجعتك ضرباً، ثم قال: إن الله سبحانه يقول في كتابه { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } وهذا عبد الرحمن بن عوف.

التاسعة عشرة ـ إذا ٱتفق الحَكَمان لزم الحكم؛ وبه قال الحسن والشافعي. وإن ٱختلفا نظر في غيرهما. وقال محمد بن المواز: لا يأخذ بأرفع من قوليْهما؛ لأنه عمل بغير تحكيم. وكذلك لا ينتقل عن المِثل الخِلْقي إذا حكما به إلى الطعام؛ لأنه أمر قد لزم؛ قاله ٱبن شعبان. وقال ٱبن القاسم: إن أمرَهما أن يحكما بالجزاء من المِثل ففعلا، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز. وقال ٱبن وهبرحمه الله في «العتبية»: من السنة أن يُخيِّر الحَكَمان من أصاب الصيد، كما خيّره الله في أن يخرج «هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً» فإن ٱختار الهدي حَكَما عليه بما يريانه نظيراً لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عَدْل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي؛ وما لم يبلغ شاة حَكَما فيه بالطعام ثم خُيّر في أن يطعمه، أو يصوم مكان كل مُدّ يوماً؛ وكذلك قال مالك في «المدوّنة».

الموفية عشرين ـ ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض، ولو ٱجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسناً. وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظّبي والنّعامة لا بدّ فيه من الحكومة، ويُجتزأ في هذه الأربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم.

الحادية والعشرون ـ لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكَمين؛ وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي في أحد قوليه: يكون الجاني أحد الحكمين؛ وهذا تسامح منه؛ فإن ظاهر الآية يقتضي جانياً وحَكَمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر، وإفساد للمعنى؛ لأن حكم المرء لنفسه لا يجوز، ولو كان ذلك جائزاً لاستغنى بنفسه عن غيره؛ لأنه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على ٱستئناف الحكم برجلين.

الثانية والعشرون ـ إذا ٱشترك جماعة محرِمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد جزاء كامل. وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبد الرحمن. وروى الدَّارَقُطْنيّ: أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ٱبن عمر فذكروا له فقال: عليكم كلكم كبش؛ قالوا: أو على كل واحد منا كبش؛ قال: إنكم لَمُعَزّزٌ بكم، عليكم كلكم كبش. قال اللغويون: لَمُعَزَّزٌ بكم أي لمشدّد عليكم. ورُوي عن ٱبن عباس في قوم أصابوا ضبعاً قال: عليهم كبش يتخارجونه بينهم. ودليلنا قول الله سبحانه: { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } وهذا خطاب لكل قاتل. وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفساً على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص، وقد قلنا بوجوبه إجماعاً منا ومنهم؛ فثبت ما قلناه.

الثالثة والعشرون ـ قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم مُحِلَون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحلّ والحرم؛ فإن ذلك لا يختلف. وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرماً بدخوله الحرم، كما يكون محرماً بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي، فهو هاتك لها في الحالتين. وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدَّبُوسيّ قال: السِّرّ فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة، وقد ٱرتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحِلّون صيدا في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرّمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة؛ فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة. قال ٱبن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا.

الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى: { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يُفعل به ما يُفعل بالهدي من الإشعار والتقليد، ويُرسل من الحِلّ إلى مكة، ويُنحرْ ويُتصدّق به فيها؛ لقوله: { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدْي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا. وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحِلّ بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد، فإنه يُبتاع في الحرم ويهدى فيه.

الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى: { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي. قال ٱبن وهب قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه، أنه يقوّم الصيد الذي أصاب، فينظر كم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مُدّا، أو يصوم مكان كل مدّ يوماً. وقال ٱبن القاسم عنه: إن قوّم الصيد دراهم ثم قوّمها طعاماً أجزأه؛ والصواب الأوّل. وقال عبد الله بن عبد الحكم مثله؛ قال عنه: وهو في هذه الثلاثة بالخيار؛ أيّ ذلك فعل أجزأه موسراً كان أو معسراً. وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء؛ لأن «أو» للتخيير. قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفّارات كذا أو كذا فصاحبه مخيَّر في ذلك، أيّ ذلك أحب أن يفعل فعل. ورُوِي عن ٱبن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة؛ فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام؛ وإن قتل إيَّلا أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً، فإن لم يجد صام عشرين يوماً؛ وإن قتل نعامة أو حماراً فعليه بَدَنة، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكيناً، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوماً. والطعام مدّ مدّ لشبعهم. وقاله إبراهيم النَّخَعيّ وحماد بن سلمة، قالوا: والمعنى { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ } إن لم يجد الهدْي. وحكى الطبريّ عن ٱبن عباس أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدّق به، وإن لم يكن عنده جزاؤه قُوّم جزاؤه بدراهم، ثم قوّمت الدراهم حِنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يوماً؛ وقال: إنما أُريد بالطعام تبيين أمر الصيام، فمن لم يجد طعاماً، فإنه يجد جزاءه. وأسنده أيضاً عن السديّ. ويُعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره.

السادسة والعشرون ـ ٱختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلَف؛ فقال قوم: يوم الإتلاف. وقال آخرون: يوم القضاء. وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين، من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. قال ٱبن العربي: وٱختلف علماؤنا كاختلافهم، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف؛ والدليل على ذلك أن الوجود كان حقاً للمتلَف عليه، فإذا أعدمه المتلِفُ لزمه إيجاده بمثله، وذلك في وقت العدم.

السابعة والعشرون ـ أما الهدْيُ فلا خلاف أنه لا بدّ له من مكة؛ لقوله تعالى: { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ }. وأما الإطعام فٱختلف فيه قولُ مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة؛ وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي. وقال عطاء: ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء؛ وهو قول مالك في الصوم، ولا خلاف فيه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام. وقال حمّاد وأبو حنيفة: يُكفِّر بموضع الإصابة مطلقاً. وقال الطَّبَريّ: يُكفِّر حيث شاء مطلقاً، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر، ولا أثر فيه. وأما من قال يصوم حيث شاء؛ فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها. وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة؛ فلأنه بدل عن الهدي أو نظير له، والهدي حق لمساكين مكة، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره. وأما من قال إنه يكون بكل موضع؛ فٱعتبار بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع. والله أعلم.

الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى: { أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } العدل والعِدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المِثل؛ قاله الكسائيّ. وقال الفرّاء: عِدْل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، ويؤثر هذا القول عن الكِسائيّ، تقول: عندي عِدْل دراهمك من الدارهم، وعندي عَدْل دراهمك من الثياب؛ والصحيح عن الكسائيّ أنهما لغتان، وهو قول البصريين. ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد. قال مالك: يصوم عن كل مُدّ يوماً، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة؛ وبه قال الشافعيّ. وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؛ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده. وهذا قول حسن ٱحتاط فيه؛ لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الإطعام. ومن أهل العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين؛ قالوا: لأنها أعلى الكفّارات. وٱختاره ٱبن العربيّ. وقال أبو حنيفةرحمه الله : يصوم عن كل مدّين يوماً ٱعتباراً بفدية الأذى.

التاسعة والعشرون ـ قوله تعالى: { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } الذوق هنا مستعار كقوله تعالى: { { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49]. وقال: { { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } [النحل: 112]. وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة. ومنه الحديث: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً" . الحديث والوبال سوء العاقبة. والمرعى الوبيل هو الذي يُتأذّى به بعد أكله. وطعام وبِيل إذا كان ثقيلاً؛ ومنه قوله:

عقِيلةُ شيخ كالوَبِيلِ يَلَنْدَدِ

وعبر بأمره عن جميع حاله.

الموفية ثلاثين ـ قوله تعالى: { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } يعني في جاهليتكم من قتلكم الصيد؛ قاله عطاء بن أبي رَبَاح وجماعة معه. وقيل: قبل نزول الكفّارة. { وَمَنْ عَادَ } يعني للمنهى { فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } أي بالكفّارة. وقيل: المعنى «فينتقِم الله مِنه» يعني في الآخرة إن كان مستحلاً؛ ويكفر في ظاهر الحكم. وقال شُرَيْح وسعيد بن جُبَير: يحكم عليه في أوّل مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه، وقيل له: ٱذهب ينتقم الله منك؛ أي ذنبك أعظم من أن يُكفَّر، كما أن اليمين الفاجرة لا كفّارة لها عند أكثر أهل العلم لعظم إثمها. والمتورّعون يتقون النقمة بالتكفير. وقد رُوِي عن ٱبن عباس: يملأ ظهره سوطاً حتى يموت. وروي عن زيد بن أبي المُعَلَّى: أن رجلاً أصاب صيداً وهو محرم فتجوز عنه، ثم عاد فأنزل الله عز وجل ناراً من السماء فأحرقته؛ وهذه عبرة للأُمّة وكفٌّ للمعتدين عن المعصية.

قوله سبحانه: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } «عَزِيزٌ» أي منيع في ملكه، ولا يمتنع عليه ما يريده. «ذُو انْتِقَام» ممن عصاه إن شاء.