التفاسير

< >
عرض

قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ
١
بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
٢
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
٣
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
٤
بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ
٥

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } قرأ العامة «قاف» بالجزم. وقرأ الحسن وٱبن أبي إسحاق ونصر ابن عاصم «قافِ» بكسر الفاء؛ لأن الكسر أخو الجزم، فلما سكن آخره حرّكوه بحركة الخفض. وقرأ عيسى الثقفيّ بفتح الفاء حرّكه إلى أخف الحركات. وقرأ هارون ومحمد بن السَّمَيْقَع «قافُ» بالضم؛ لأنه في غالب الأمر حركة البناء نحو منذُ وقطُّ وقبلُ وبعدُ. وٱختلف في معنى «قۤ» ما هو؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ٱخضرت السماء منه، وعليه طَرَفَا السماءِ والسماء عليه مَقْبِيَّةٌ، وما أصاب الناسُ من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. ورواه أبو الجوزاء عن عبد الله بن عباس. قال الفرّاء: كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في «قۤ»؛ لأنه ٱسم وليس بهجاء. قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من ٱسمه؛ كقول القائل:

قلـتُ لها قِفِـي فقالتْ قـافْ

أي أنا واقفة. وهذا وجه حسن وقد تقدّم أوّل «البقرة». وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالاً صغاراً، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف؛ قال: فما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزت تلك الأرض؛ فقال لَه: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله؛ قال: إن شأن ربِّنا لعظيمٌ، وإن ورائي أرضاً مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حرّ جهنم. فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها؛ وأين هي من الأرض. قال: زدني، قال: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تُرْعَد فرائصُه، يخلق الله من كل رِعدة مائة ألف ملك، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إلٰه إلا الله؛ وهو قوله تعالى: { { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [النبأ: 38] يعني قول: لا إلٰه إلا الله. وقال الزجاج: قوله «قۤ» أي قُضِيَ الأمر، كما قيل في «حمۤ» أي حُمَّ الأمرُ. وقال ٱبن عباس: «قۤ» ٱسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وعنه أيضاً: أنه ٱسم من أسماء القرآن. وهو قول قتادة. وقال القُرظيّ: ٱفتتاح أسماء الله تعالى قدير وقاهر وقريب وقاضٍ وقابض. وقال الشَّعبيّ: فاتحة السورة. وقال أبو بكر الورّاق: معناه قِف عند أمرنا ونهينا ولا تَعْدُهما. وقال محمد بن عاصم الأنطاكيّ: هو قرب الله من عباده، بيانه { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } وقال ٱبن عطاء: أقسم الله بقوّة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله. { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } أي الرفيع القدر. وقيل: الكريم؛ قاله الحسن. وقيل: الكثير؛ مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا من كثرة العدد، من قولهم: كثير فلان في النفوس؛ ومنه قول العرب في المثل السائر: (في كل شجرٍ نارْ، وٱسْتَمجدَ المَرْخُ والعَفَارْ). أي ٱستكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر؛ قاله ابن بحر. وجواب القسم قيل هو: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضَ مِنْهُمْ } على إرادة اللام؛ أي لقد علمنا. وقيل: هو { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ } وهو ٱختيار الترمذيّ محمد بن عليّ قال: «قۤ» قسم باسم هو أعظم الأسماء التي خرجت إلى العباد وهو القدرة، وأقسم أيضاً بالقرآن المجيد، ثم ٱقتص ما خرج من القدرة من خلق السموات والأرضين وأرزاق العباد، وخلق الآدميين، وصفة يوم القيامة والجنة والنار، ثم قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه قال: «قۤ» أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت أن فيما ٱقتصصت في هذه السورة { لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } وقال ابن كيسان: جوابه { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ }. وقال أهل الكوفة: جواب هذا القسم { بَلْ عَجِبُوۤاْ } وقال الأخفش: جوابه محذوف كأنه قال: { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } لتبعثن؛ يدل عليه { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً }.

قوله تعالى: { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } «أَنْ» في موضع نصب على تقدير لأن جاءهم منذر منهم، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، والضمير للكفّار. وقيل: للمؤمنين والكفار جميعاً. ثم ميّز بينهم بقوله تعالى: { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ } ولم يقل فقالوا، بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فأسمعني المكروه، وقال لي الفاسق أنت كذا وكذا. { هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العُجَاب بالضم، والعُجَّاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال قتادة: عجبهم أن دُعوا إلى إلٰه واحد. وقيل: من إنذارهم بالبعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى.

قوله تعالى: { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } نبعث؛ ففيه إضمار. { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } الرجع الردّ أي هو ردّ بعيد أي محال. يقال: رَجَعْته أَرْجِعه رَجْعاً، ورَجَع هو يَرجِعُ رُجوعاً، وفيه إضمار آخر؛ أي وقالوا أنبعث إذا متنا. وذكر البعث وإن لم يجر هاهنا فقد جرى في مواضع، والقرآن كالسورة الواحدة. وأيضاً ذكر البعث منطوٍ تحت قوله: { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } لأنه إنما ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة.

قوله تعالى: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضَ مِنْهُمْ } أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شيء حتى تتعذر علينا الإعادة. وفي التنزيل: { { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه: 51 - 52] وفي الصحيح: "كل ٱبنِ آدم يأكله التراب إلا عَجْبَ الذَّنَبِ منه خُلِقَ وفيه يُرَكَّبُ" وقد تقدّم. وثبت أن الأنبياء والأولياء والشهداء لا تأكل الأرضُ أجسادهم؛ حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم. وقد بينا هذا في كتاب «التذكرة» وتقدّم أيضاً في هذا الكتاب. وقال السدي: النقص هنا الموت يقول قد علمنا منهم من يموت ومن يبقى؛ لأن من مات دُفِن فكأنّ الأرض تَنقصُ من الناس. وعن ابن عباس: هو من يدخل في الإسلام من المشركين. { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } أي بعدّتهم وأسمائهم فهو فعيل بمعنى فاعل. وقيل: اللوح المحفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شيء. وقيل: الكتاب عبارة عن العلم والإحصاء؛ كما تقول: كتبت عليك هذا أي حفظته؛ وهذا ترك الظاهر من غير ضرورة. وقيل: أي وعندنا كتاب حفيظ لأعمال بني آدم لنحاسبهم عليها.

قوله تعالى: { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ } أي القرآن في قول الجميع؛ حكاه الماورديّ. وقال الثعلبي: بالحق القرآن. وقيل: الإسلام. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. { فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي مختلط. يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن؛ قاله الضحاك وابن زيد. وقال قتادة: مختلِف. الحسن: ملتبِس؛ والمعنى متقارب. وقال أبو هريرة: فاسد، ومنه مَرِجت أمانات الناس أي فسدت؛ ومَرِجَ الدينُ والأمرُ ٱختلط؛ قال أبو دؤاد:

مَرِجَ الدِّينُ فَأَعْدَدْتُ لَهُمُشْرِفَ الْحَارِكِ مَحْبُوكَ الْكَتَدْ

وقال ابن عباس: المريج الأمر المنكر. وقال عنه عمران بن أبي عطاء: «مريج» مختلط. وأنشد:

فجَالتْ فٱلتمستُ به حَشَاهَافخَرَّ كأنه خُوطٌ مَرِيجُ

الخُوطُ الغصن. وقال عنه العوفيّ: في أمر ضلالة وهو قولهم ساحر شاعر مجنون كاهن. وقيل: متغير. وأصل المَرَج الاضطراب والقلق؛ يقال: مَرِجَ أمرُ الناس ومَرِج أمرُ الدِّين ومرِج الخاتم في إصبعي إذا قَلِق من الهزال. وفي الحديث: "كيف بك يا عبد الله إذا كنت في قوم قد مَرِجت عهودهم وأمانَاتهُم وٱختلفوا فكانوا هكذا وهكذا" وشبك بين أصابعه. أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب «التذكرة».