التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ
١٦
إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ
١٧
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
١٨
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
١٩

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } يعني الناس، وقيل آدم. { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي ما يختلج في سرّه وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفى بها. ومن قال: إن المراد بالإنسان آدم؛ فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفيّ. قال الأعشى:

تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاساً إذا ٱنْصَرَفتْكما ٱستعان بريح عِشْرِقٌ زجِلُ

وقد مضى في «الأعراف». { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } هو حبل العاتق وهو ممتدّ من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روى معناه عن ٱبن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عِرق معلَّق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب؛ أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل أي ونحن أملك به من حبل وريده مع ٱستيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لأنه عِرق يخالط القلب، فعلم الربِّ أقربُ إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان يحجب البعضُ البعضَ ولا يحجب علم الله شيء.

قوله تعالى: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملَك يخبر، ولكنهما وكِّلا به إلزاماً للحجة، وتوكيداً للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: { ٱلْمُتَلَقِّيَانِ } ملَكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا متّ طُوِيت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: { { ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14] عَدَلَ والله عليك من جعلك حسيبَ نفسك. وقال مجاهد: وكَّل الله بالإنسان مع علمه بأحواله مَلَكين بالليل ومَلَكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاماً للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب (العبد) قال لا تعجل لعلّه يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عَمِلَ حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عَمِل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر" .

وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مقعدَ مَلكيك على ثَنِيّتك لسانُك قلمهما ورِيقُك مِدَادُهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما" . وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عَنْفَقته. وإنما قال: «قَعِيدٌ» ولم يقل قعيدان وهما ٱثنان؛ لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه؛ ومنه قول الشاعر:

نَحْنُ بما عِندنا وأنتَ بماعِندَك راضٍ والرّأيُ مخْتَلِفُ

وقال الفرزدق:

إنِّي ضَمِنتُ لمن أَتَانِي ما جَنَىوأَبَى فكانَ وكنتُ غيرَ غَدُور

ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرِّد: أن الذي في التلاوة أَوَّلٌ أُخِّرَ ٱتساعاً، وحذف الثاني لدلالة الأوّل عليه. ومذهب الأخفش والفرّاء: أن الذي في التلاوة يؤدّي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و«قَعِيدٌ» بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد. وقيل: «قَعِيدٌ» بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم.

وقال الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع؛ كقوله تعالى: { { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 16] وقوله: { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم: 4] وقال الشاعر في الجمع، أنشده الثعلبي:

أَلِكْنِي إِلَيْها وَخَيْرُ الرَّسُولِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الخَبَرْ

والمراد بالقعيد هاهنا الملازم الثابت لا ضد القائم.

قوله تعالى: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه؛ مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للأمور. الثاني أنه الحافظ، قاله السدّي. الثالث أنه الشاهد، قاله الضحاك. وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني أنه الحافظ الْمُعَدُّ إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر المهيأ؛ وقد عَتَّدَه تعتيداً وأَعْتَدَه إعتاداً أي أعدّه ليوم، ومنه قوله تعالى: { { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } [يوسف: 31] وفرس عَتَدٌ وعَتِدٌ بفتح التاء وكسرها المعَدُّ للجري.

قلت: وكله يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر:

لئِن كُنتَ مِنِّي في العِيَان مُغَيَّباًفذكرك عندي في الفؤادِ عَتِيدُ

قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه. وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محى عنه ما كان مباحاً، نحو ٱنطلِق ٱقعد كُلْ مما لا يتعلق به أجر ولا وزر، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أوّل الصحيفة خيراً وفي آخرها خيراً إلا قال الله تعالى لملائكته: ٱشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طَرَفي الصحيفة" . وقال علي رضي الله عنه: إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أوّلها وفي آخرها خيراً يغفر لكم ما بين ذلك. وأخرج أبو نعيم الحافظ قال: حدّثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق ابن خزيمة قال حدّثنا جَدِّي محمد بن إسحق قال حدّثنا محمد بن موسى الحَرَشيّ قال: حدّثنا سهيل ابن عبد الله قال: سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ٱبن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الأمةَ معهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبدُ أو الأمة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للآخر فُكَّ الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فإذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }" غريب من حديث الأعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وكّل بعبده مَلَكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا ربّ فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني وٱكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة" «.

قوله تعالى: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } أي غمرته وشدّته؛ فالإنسان مادام حيًّا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده. وقيل: الحقُّ هو الموت سُمِّي حقًّا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلى دار الحق؛ فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وٱبن مسعود رضي الله عنهما؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى؛ أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت. وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت؛ ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نَقَلَ الحديث. قال أبو بكر الأنباري: حدّثنا إسماعيل بن إسحق القاضي حدّثنا علي بن عبد الله حدّثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما ٱحتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:

إذا حَشْرَجَـتْ يومـاً وضـاقَ بها الصَّـدْرُ

فقال أبو بكر: هلاَّ قلتِ كما قال الله: «وَجَاءَتْ سَكرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» وذكر الحديث. والسَّكْرَةُ واحدة السَّكَرات. وفي الصحيح عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه رِكْوة ـ أو عُلْبَة ـ فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إلٰه إلا الله إن للموت سكراتثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده" . خرجه البخاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة" . وقال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين ٱدعوا الله أن يهوّن عليكم هذه السَّكْرة. يعني سَكَرات الموت. وروي: «إن الموت أشدّ من ضربٍ بالسيوف ونشرٍ بالمناشير وقرضٍ بالمقاريض». { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفرّ منه وتميل عنه. يقال: حادَ عن الشيء يَحِيدُ حُيوداً وحَيْدَة وحَيْدُودة مال عنه وعدل. وأصله حَيَدودة بتحريك الياء فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فَعْلُول غير صَعْفُوق. وتقول في الأخبار عن نفسك: حِدْتُ عن الشيء أَحِيد حَيْداً ومَحِيداً إذا ملت عنه؛ قال طَرَفَة:

أبا منذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ فَهِبتَهُوحِدْتَ كما حاد البعيرُ عن الدَّحْضِ