التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
٣٠
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
٣١
هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
٣٢
مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
٣٣
ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ
٣٤
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
٣٥

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } قرأ نافع وأبو بكر «يَوْمَ يَقُوُل» بالياء ٱعتباراً بقوله: { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ }. الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة. وقرأ الحسن «يَوْمَ أَقُولُ». وعن ٱبن مسعود وغيره «يَوْمَ يُقَالُ». وٱنتصب «يَوْم» على معنى ما يبدّل القول لديّ يومَ. وقيل: بفعل مقدر معناه: وأنذرهم { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ } لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاْستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده. «وتَقُولُ» جهنم { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أي ما بقي فيّ موضع للزيادة. كقوله عليه السلام: "هل تَرَك لنا عَقِيل من رَبْع أو منزل" أي ما ترك؛ فمعنى الكلام الجحد. ويحتمل أن يكون ٱستفهاماً بمعنى الاستزادة؛ أي هل من مزيد فأزداد؟. وإنما صلح هذا للوجهين؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجحد. وقيل: ليس ثَمَّ قول وإنما هو على طريق المثل؛ أي أنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك؛ كما قال الشاعر:

امتلأَ الحوضُ وقال قَطْنِيمَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأْتَ بَطْنِي

وهذا تفسير مجاهد وغيره. أي هل فيّ من مسلك قد ٱمتلأت. وقيل: يُنطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة «الفُرقان». وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذيّ عن أنس بن مالك: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم يُلْقَى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع ربُّ العزة فيها قَدَمه فيَنْزَوِي بعضها إلى بعض وتقول قَطْ قَطِ بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فَضلٌ حتى يُنشىءَ الله لها خلقاً فيسكنَهم فَضْلَ الجنة" لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: "وأما النار فلا تمتلىء حتى يضع الله عليها رِجْله يقول لها قَطْ قَطْ فهنالك تمتلىء ويَنْزَوِي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحداً وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقاً" . قال علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القَدم هنا فهم قوم يُقدِّمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرِّجْل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؛ يقال: رأيت رِجْلاً من الناس ورِجْلاً من جَرَاد، قال الشاعر:

فمرَّ بنا رِجْلٌ من الناس وانْزَوَىإليهم من الحيِّ اليمانينَ أَرْجُلُ
قبائلُ من لَخْمٍ وعُكْلٍ وحِمْيَرٍعلى ٱبْنَيْ نِزارٍ بالعَدَاوة أحْفَلُ

ويبين هذا المعنى ما روي عن ٱبن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مِقمَع ولا تابوت إلا وعليه ٱسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف ٱسمه وصفته، فإذا ٱستوفى (كل واحد منهم) ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة: قَطْ قَطْ حسبُنا حسبُناٰ أي ٱكتفينا ٱكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبّر عن ذلك الجمع المنتظر بالرِّجل والقَدَم؛ ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: "ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىءَ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة" وقد زدنا هذا المعنى بياناً ومهدناه في كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شُمَيْل في معنى قوله عليه السلام: "حتى يَضَع الجبَّار فيها قَدمَه" أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.

قوله تعالى: { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي قربت منهم. وقيل: هذا قبل الدخول في الدنيا؛ أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم ٱجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. «غَيْرَ بَعِيدٍ» أي منهم وهذا تأكيد. { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ } أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة «تُوعَدُونَ» بالتاء على الخطاب. وقرأ ٱبن كثير بالياء على الخبر؛ لأنه أتى بعد ذكر المتقين. { لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أوّاب أي رَجّاع إلى الله عن المعاصي، ثم يرجع ويذنب ثم يرجع، هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ٱبن عباس وعطاء: الأوّاب المسبِّح من قوله: { { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } [سبأ: 10]. وقال الحكم بن عتيبة: هو الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وهو قول ٱبن مسعود. وقال عُبيد بن عُمير: هو الذي لا يجلس مجلساً حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدّث أن الأوّاب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي الحديث: "من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إلٰه إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس" . وهكذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول. وقال بعض العلماء: أنا أحبّ أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا أحبّ أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته.

قلت: هذا استحسان وٱتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الورّاق: هو المتوكل على الله في السراء والضراء. وقال القاسم: هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل. «حَفِيظٍ» قال ٱبن عباس: هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة: حفيظ لما ٱستودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه. وعن ٱبن عباس أيضاً: هو الحافظ لأمر الله. مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى بالإعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على أربعِ ركعات من أوّل النهار كان أوّاباً حفيظاً" ذكره الماوردي.

قوله تعالى: { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } «مَنْ» في محل خفض على البدل من قوله: { لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أو في موضع الصفة لـ «أَوَّابٍ». ويجوز الرفع على الاستئناف، والخبر «ٱدْخُلُوهَا» على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم: «ٱدْخُلُوهَا». والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسُّدي: يعني في الخلوة حين لا يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى السترَ وأغلق البابَ. { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } مقبل على الطاعة. وقيل: مخلص. وقال أبو بكر الورّاق: علامة المنيب أن يكون عارفاً لحرمته وموالياً له، متواضعاً لجلاله تاركاً لهوى نفسه.

قلت: ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم؛ كما قال تعالى: { { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:89] على ما تقدم؛ والله أعلم. { ٱدْخُلُوهَا } أي يقال لأهل هذه الصفات: { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } أي بسلامة من العذاب. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النِّعم. وقال: «ٱدْخُلُوهَا» وفي أوّل الكلام «مَنْ خَشِيَ»؛ لأن «مَنْ» تكون بمعنى الجمع.

قوله تعالى: { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } من النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي: صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وذكر ٱبن المبارك ويحيـى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعوديّ عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عتبة عن ٱبن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب. قال ٱبن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيـى ابن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد: «فيحدث الله لهم من الكرامة شيئاً لم يكونوا رأوه قبل ذلك». قال يحيـى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: «وَلَدَيْنَا مَزيدٌ».

قلت: قوله «في كَثِيب» يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب؛ كما في مرسل الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كَثِيب من كافور" الحديث. وقد ذكرناه في كتاب «التذكرة». وقيل: إن المزيد ما يزوَّجون به من الحور العين: رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً.